لم أعرف جدتي غالية. كانت قاسية، ومع ذلك كان والدي يحبّها، ويردّ سبب قساوتها إلى كثرة أولادها:"12 رأساً، أي 12 مزاجاً مختلفاً، ستة أمزجة ذكورية وستة أنثوية... من يستطيع تحملهم؟"، هكذا كان يقول. لها واقعة، كان والدي يكررها أمامي، كطرفة: عندما وصلت أمي، وكانت خطيبته، للمرة الأولى إلى القرية، لم تدعها للجلوس، بل أمرت عمّاتي بأن يدرن حولها، استعراضاً وتفحّصاً لتقاسيمها وتكاوينها... يومذاك، رسبت أمي في امتحان التحديق، لكنها فازت في امتحان الودّ وتابعت حياتها مع أبي، في المهجر، بعيداً من"المستبدّة"، كما كنت أظنها... لم أعرفها، توفيت قبل أن نعود. شفيقة، جدتي لأمي، هي التي عرفتها. كانت قصيرة القامة، فما لبث رأسي أن أدرك علو كتفيها. وصارت كأنها رفيقتي، في ما عدا أنها تعرف كيف تطبخ وتدبّر المنزل وتشتري الأغراض وتحمل النقود... وتربّي الأولاد، وأنا من بينهم. صوتها همس، يكاد لا يُسمع. وعندما لا تريد أن يفهم الزوّار، مثلاً، ما تطلبه من خالي، كانت تهجّئ الكلمات سريعاً وتلفظها بتقطّع:"ع ص ي ر. ب ن. مع. ه ا ل. من عند أبو مدحت"... تماماً كما يفعل العملاء السرّيون في المسلسلات. أما نحن فنحاول التقاط الأحرف وجمعها بترتيبها الصحيح. ويا ما كنّا نفهم أشياء أخرى.