في جلسة التصويت على القرار 1701 في مجلس الأمن الدولي حرصت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية على الوجود بنفسها حيث لعبت الولاياتالمتحدة الدور الفاعل في مشاورات الكواليس وصولاً الى ذلك القرار. وطوال شهر كامل من الحرب الإسرائيلية على لبنان أخذت أميركا لنفسها دور المحامي عن اسرائيل في الساحة الدولية والرافض صراحة للوقف الفوري للحرب والمحرض عملياً على استمرارها والداعم لها فعليا بالمزيد والمزيد من الأسلحة الأكثر فتكاً وتدميراً للبنان بمجمله وليس مجرد"حزب الله"وأسلحته المحدودة. لم يفترض أحد في أي وقت أن"حزب الله"يناطح اسرائيل عسكرياً. وحتى حينما خرجت اسرائيل فراراً من الجنوباللبناني في ايار مايو 2000 لم يكن ذلك يعني في حين أن"حزب الله"أصبح قوة عسكرية كبرى ولا أن اسرائيل أصبحت فجأة دولة منهارة. كان النجاح الحقيقي ل"حزب الله"أنه مارس حرب العصابات كما يجب أن تكون، وفي ذلك النوع من الحروب يكون الهدف هو رفع كلفة استمرار الاحتلال الى الدرجة التي ترغمه على الفرار، وهو ما حدث فعلا. خرجت اسرائيل من الجنوباللبناني بعد 18 سنة من الاحتلال. ولكنها بقيت القوة العسكرية الإقليمية الأكبر. لكن في المقابل استمر"حزب الله"معبراً عن ارادة المقاومة يحظى بالتفاف شعبي لبناني واسع الأطياف وبقدرة فذة على حماية نفسه من الإختراق الاستخباراتي الإسرائيلي الذي كان في مراحل سابقة أحد أوراق القوة الإسرائيلية. في جلسة التصويت على القرار 1701 قال الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان مخاطباً المجتمعين:"سأكون مخلاً بواجبي اذا لم أقل لكم الى أي مدى أشعر بخيبة أمل شديدة لعدم توصل المجلس الى هذا القرار قبل ذلك بكثير"، لافتاً الى أن هذا التأخير"زعزع جدياً ثقة العالم في سلطة المجلس ونزاهته". في المقابل قالت وزيرة الخارجية الاميركية في الجلسة نفسها ان القرار"يمهد الطريق لسلام دائم"داعية ايران وسورية الى احترام سيادة لبنان مشيرة الى أن"حزب الله يواجه الآن خيارا واضحا بين الحرب والسلام... شعوب الشرق الأوسط عاشت لفترة طويلة تحت رحمة المتطرفين... وحان الوقت لبناء مستقبل مشرق. القرار يرسم لنا هذا الطريق". في الواقع ان القرار 1701 جاء أبعد ما يمكن عن هذا الطريق. وربما كانت كوندوليزا رايس أكثر دقة حين صرحت في الأيام الأولى من الحرب الإسرائيلية على لبنان بأن ما يجري هو آلام المخاض لميلاد شرق أوسط جديد. هذا التوظيف الأميركي للحرب الإسرائيلية على لبنان أصبحت أبعاده تتضح في أرض الواقع يوما بعد يوم. فبعد 33 يوما من تلك الحرب المتوحشة عبأت السياسة الأميركية نفسها لكي تعطي لإسرائيل بالديبلوماسية ما عجزت عنه بقوتها العسكرية التدميرية. لم يعد أحد - بما في ذلك اسرائيل نفسها - يتحدث عن الجنديين الإسرائيليين الذين أسرهما"حزب الله"في 12/7 لكن الحديث كله يتواتر عن نزع سلاح"حزب الله"من الجنوباللبناني كمرحلة أولى ثم من كل لبنان كمرحلة تالية. هناك جيش لبناني مكلف ببسط سلطة الدولة حتى الحدود مع اسرائيل وهناك قوة دولية مكلفة بمساندة الجيش اللبناني حين يتم دفعه الى استبعاد الوجود المقاوم من جنوبلبنان. ولكي تزداد الصورة وضوحا فإن الإضافة الجديدة هي تكليف القوات الدولية مهمة اضافية هي مراقبة الحدود اللبنانية مع سورية تحت عنوان منع تهريب الأسلحة الى المقاومة في لبنان. فوق هذا وذاك هناك مراقبة دائمة - وتفتيش عند اللزوم - للمياه البحرية وكذلك الأجواء اللبنانية. وهكذا اذا بدأ الحديث بنزع سلاح"حزب الله"فإنه ينتهي الى وضع لبنان كله تحت الوصاية الدولية. الأممالمتحدة هنا يجري اغتصابها لتصبح غطاء دوليا لما يجري. لكن الغطاء رقيق ومليء بالثقوب من البداية. فمنذ اللحظة الأولى أعلنت اسرائيل أنها تفضل أن يقوم حلف شمال الأطلسي بقيادة القوة الدولية الجديدة. ومع تدخل فرنسا الباحثة لنفسها عن دور متأخر قيل ان القوة الدولية ستصبح تحت علم الأممالمتحدة ولكن بقيادة فرنسية. لكن في اللحظة التي وجدت فرنسا انه يتم استدراجها الى احتمال المواجهة مع"حزب الله"والمقاومة تراجعت لتتقدم ايطاليا. في كل تلك التطورات استمرت أميركا هي المهندس الحقيقي لما يجري وهي التي تختار الدول التي ستتشكل منها القوة الدولية. كان ملفتاً تماماً أن تتطوع ألمانيا مثلاً للمشاركة بقوات لمراقبة المياه الإقليمية اللبنانية وهي الدولة البعيدة عسكريا عن الشرق الأوسط كله منذ الحرب العالمية الثانية. كان ملفتا أيضا دفع تركيا لكي تشارك بقواتها وهي الدولة الوثيقة الصلة بإسرائيل عسكريا، لكن الأهم انها الدولة التي فصلت نفسها عن العالم العربي والمنطقة بعد الحرب العالمية الأولى. في كل الحالات، سواء بدأنا بألمانياوفرنساوايطاليا أو انتهينا الى تركيا، فنحن نتكلم عن أعضاء رئيسيين في منظمة حلف شمال الأطلسي بقيادة الولاياتالمتحدة. إن مثل تلك الخيارات الأميركية لا يمكن فهمها عشوائيا، فلكل منها دلالة ولكل منها نتائج محتملة بالنسبة الى الصورة الأميركية الأكثر شمولا عن ميلاد شرق أوسط جديد. ومن المنظور الأميركي فقد بدا دائما أن مصير الدولة اللبنانية يتقرر في أي مكان آخر الا في لبنان. وبدا أيضا أن حلف شمال الأطلسي سيتمدد جنوبا للمرة الاولى منذ قيامه كمنظمة عسكرية في 1949. في مرحلة أولى قد لا يظهر الحلف بشكل سافر وإنما من خلال مشاركة دول أعضاء فيه يتم دفعهم للمشاركة بقوات في مهام مستحدثة. ربما يتضح هذا أكثر وأكثر بمتابعة الضغط الأميركي على حكومة السودان للقبول بقوات دولية في دارفور تبدأ تحت علم الأممالمتحدة لكنها تنتهي بوضع اليد على دارفور ذاتها. في التعامل العربي مع هذا الذي يجري تبدو الصورة أكثر قتامة. في الأسابيع الأولى من الحرب الإسرائيلية على لبنان بدت الأطراف العربية عاجزة وقليلة الحيلة. وحينما نجح وزراء الخارجية العرب أخيرا في الاجتماع في بيروت تضامناً مع لبنان بدا التحرك رمزياً ومتأخراً وتحت رقابة وموافقة اسرائيل ذاتها المستمرة في غاراتها الجوية المدمرة على مسمع من الوزراء العرب المجتمعين في العاصمة اللبنانية. أخيرا حينما ذهب الوفد العربي المنتدب الى نيويورك لدعم موقف الحكومة اللبنانية في تعديل المشروع الأميركي الفرنسي البالغ السوء كان هذا يجري في الدقائق الخمس الأخيرة، وعملياً لم يخفف الكثير من سوء القرار 1701. القرار مثلاً يدعو الى وقف"العمليات الهجومية"الإسرائيلية تاركاً لإسرائيل تفسير انتهاكاتها التالية بأنها أعمال دفاعية بما في ذلك الغارات الخاطفة واختطاف مواطنين لبنانيين من البقاع اللبناني. القرار أيضا لم يمس من قريب ولا من بعيد حالة الحصار الكامل التي تفرضها اسرائيل على لبنان بحراً وجواً، فلا طائرة ولا سفينة تذهب الى لبنان الا بموافقة اسرائيلية مسبقة. حتى المعونات الإنسانية الى لبنان لا تزال خاضعة للتفتيش الإسرائيلي المسبق بما في ذلك بواخر الوقود والمازوت والغاز والأدوية. واسرائيل تعلن بالفم المليء أنها لن ترفع الحظر الشامل عن لبنان الا بعد وصول قوات الأممالمتحدة لكي تتولى هي المهمة نيابة عن اسرائيل. بموازاة هذا السياق بدت عناصر عربية وكأنها تستكمل لإسرائيل ما عجزت عنه بالحرب. فبدلاً من الإمساك بلحظة توحد لبنانية مدهشة مع المقاومة طوال 33 يوماً والبناء عليها جرى فتح مساجلات ومماحكات تستهدف عزل المقاومة الوطنية في لبنان عن شعبها وتلخيص القصة كلها في مسألة واحدة هي نزع سلاح"حزب الله". بالطبع الأصل في الأشياء هو سلطة الدولة. لكن في الحالة اللبنانية لم تتمكن الدولة في أي وقت من ممارسة واجباتها الأساسية. ولو فكر الجيش اللبناني غداً في تحديث أسلحته وبناء نفسه كقوة دفاعية حقيقية، فإن اسرائيل ستكون أول المعترضين والرافضين لأنها من البداية لا تريد جيشاً لبنانياً ضعيفاً فقط وإنما تريد أساساً لبنان ضعيفاً أيضاً ومفتوحاً باستمرار امام الهيمنة الإسرائيلية. وبينما كفل القرار 1701 لإسرائيل يداً طليقة في لبنان حتى إشعار آخر فإن الحالة العربية تبدو هي الأخرى عاجزة وقليلة الحيلة بحيث لم يفتح الله عليها أخيراً إلا بالتوجه الى مجلس الأمن الدولي في الشهر المقبل لإعادة طرح قضية السلام على المجتمع الدولي، بعد أن اكتشف العرب أنها لم تكن عملية سلام وانما مجرد خديعة كبرى ومستمرة. بالطبع يمكن دائما للدول العربية أن تخاطب مجلس الأمن الولي باعتباره"ديوان المظالم". لكن هذا لا يعني استعداد مجلس الأمن لقبول المهمة ولا أن اليد الأميركية الثقيلة ستصبح أقل ثقلاً في انتهاز اللحظة لتوليد شرق أوسط جديد. ربما كان الأكثر جدية وفائدة من الذهاب الى نيويورك في الشهر المقبل هو تبني الدول العربية لنفسها موقفاً محدداً متماسكاً تقرره في عواصمها هي وتستجمع له الحشد بالتشاور المباشر مع الدول الفاعلة وبعدها فقط يمكن الذهاب الى مجلس الأمن. أو ربما كان الأكثر لزوماً أن تحلل العواصم العربية لنفسها معنى دخول لاعبين دوليين جدد الى ساحة المنطقة تطفلاً واقتحاماً وبلهجة مستجدة تماماً، تلخصها حالة ألمانيا مثلاً التي نشطت أخيراً في تسويق المشروع الأميركي أو ربما تعيد الدول العربية استقراء دلالات بعض ما يجري أخيراً وفي مقدمه التضخم المنهجي المتزايد في قوة اسرائيل العسكرية، وآخر تجلياتها موافقة ألمانيا على اعطاء اسرائيل غواصتين جديدتين بقدرات نووية وبقيمة بليون و270 ألف دولار، اضافة الى ثلاث غواصات مماثلة أعطتها ألمانيا لإسرائيل سابقا بأسعار شبه مجانية. لقد أصبحت المفارقة الأكبر في المنطقة بعد سنوات من الحديث عن"عملية السلام"ان اسرائيل تركت للعرب الحديث بينما اندفعت هي الى روسيا والصين تحتج على أي صفقة سلاح، مهما كانت متواضعة، يتم بيعها الى أي دولة عربية، وفي الوقت نفسه تضاعف هي قدراتها التسليحية بأقصى سرعة وبقفزات نوعية في مستوى الأسلحة، ثم تمارس عملياً بين فترة وأخرى استعراضاً مدمراً للقوة يستأسد على دولة صغيرة وضعيفة بحجم لبنان. لقد ترك العرب لإسرائيل الحصول على الغواصات النووية المتطورة من ألمانيا وقنابل الليزر من أميركا استعداداً من اسرائيل لمرحلة ما بعد لبنان. أما العرب فقد جرى حصرهم ليشغلوا أنفسهم بالتفكير في مرحلة ما بعد"حزب الله". انها مرحلة غير مسبوقة من التشوش وخلط الأوراق. * كاتب مصري