يعتبر الاغتيال السياسي صنفاً من صنوف إرهاب الدولة العبرية المنظم، ويعبر عن الإفلاس الأخلاقي للنخبة في اسرائيل، ويفضي الى أزمة الضمير الأميركية. وبالنظر الى قائمة الاغتيالات الطويلة ضد الفلسطينيين، فإن النموذج الاسرائيلي لهذا الارهاب لا مثيل له في التاريخ. لقد استخدمت اسرائيل في مطلع السبعينات طروداً مفخخة، في حرب الاغتيالات وأسمتها"حرب الظلال"، وطالت تصفياتها، عدداً كبيراً من نشطاء منظمة التحرير الفلسطينية في عدد واسع من عواصم العالم. ثم"شرّعت"هذا الارهاب في آذار مارس 1978، حين صادق الكنيست الاسرائيلي على قرار يسمح لأجهزة الأمن الاسرائيلية، باغتيال القادة الفلسطينيين في أي مكان في العالم، أي قتل الخصوم السياسيين والمواطنين من قومية مناوئة. وهذا الاغتيال الموجه والمنهجي، مثّل جزءاً ثابتاً من استراتيجية الارهاب وعلى أراضي بلدان أخرى، من دون الاكتراث لمبادئ القانون الدولي، أو لمنطق العلاقات الدولية والديبلوماسية، بما في ذلك المساس بالسيادة بتنفيذ عملية عنيفة فوق أرض الغير. وطوال عقود تاريخها أطلقت عليه عنواناً محدداً من طرفها فقط، أسمته"استراتيجية مكافحة الارهاب". وفي تشرين الأول اكتوبر من العام 1985، بعد غارات سلاح الجو الاسرائيلي على تونس العاصمة، أعلن وزير الدفاع الاسرائيلي حينها اسحق رابين في خطابه أمام الكنيست"ان دولة اسرائيل ستهتم بمعاقبة كل منفذي النشاط الارهابي وقادته حتى وان كانوا مختبئين بعيداً". وفي نيسان ابريل 1988، أوضح رئيس الاستخبارات الاسرائيلية حينها اللواء أمنون شاحاك أهمية تصفية قادة المنظمة بقوله:"كل من يعمل ضدنا يجب اعتباره هدفاً"، وأيّد هذا التوجه مستشار رئيس الحكومة آنذاك رافائيل ايتان بقوله:"رأيي هو وجوب التطلع لتصفية كل قادة الارهاب ساسة وعسكريين على السواء، وإن تطلب ذلك بصفة عامة، دخول أراضي دول ذات سيادة لتنفيذ عمليات فوق أرضها، من تصفية واختطاف. وليس من مصلحة اسرائيل أن تعلن مسؤوليتها عن تنفيذ العملية. كما ان ادعاء الآخرين بأن اسرائيل مسؤولة عن تلك العمليات، نواجهه بالصمت". وما زال الصمت الاسرائيلي يخيّم على قائمة طويلة من الأسماء، شملت قيادات وكوادر سياسية بأساليب مختلفة في عموم أنحاء العالم. كما طال الاختطاف وبشكل علني مواطنين لبنانيين ومن عمق أراضي وطنهم. وتشير المقالات والمناظرات الاسرائيلية المؤسسة لهذه الرواية، ومن أبرزها وجهة نظر اثنين من الرؤساء السابقين للاستخبارات العسكرية، شلومو غازيت والدكتور ميخائيل هاندل بعنوان"حرب الاستخبارات"الى مسارات محتملة بهذه"الاستراتيجية"استناداً الى ما وصفاه بالحرب النفسية، بأن الاغتيالات"سلاح شديد القوة والسرية، هدفه ضرب المنظمة في أكثر نقاطها ضعفاً، وهي الدافع الداخلي ورغبة الأعضاء في الانضمام والبقاء والعمل في اطارها، فهي تؤدي الى مسارات محتملة: تقويض الثقة عن طريق ترويج قصص عن خائن، وتقويض الثقة في القيادة والزعامة وإثارة نزاع بين أعضاء المنظمة، وإثارة منازعات بين المنظمات، وخلق هوة بين المنظمة وبين البنية المدنية المؤيدة والمعاونة لها". وتنوعت المناظرة الاسرائيلية تحت تسميات"ضربة قاضية"و"تليين الهدف". أما بشأن"البنية المدنية المؤيدة"باستهدافها بلورة استراتيجيا، اتخذت أسلوب العقاب الجماعي ولم تكتف بالمساس ببنية المنظمات أو مواجهة البنية العسكرية لها. ففي اطار السياسة الدائمة للجيش الاسرائيلي، من أجل"إرباك الصفوف والقدرة العملياتية"، استهدف المساس بأمن المواطنين العاديين ومصالحهم ومعنوياتهم. والأمثلة العيانية معاشة راهناً في لبنان في هذا الجانب، ومنها وصف دان شومرون رئيس الأركان السابق للجيش الاسرائيلي، أهداف عملية اسرائيل ضد قرية ميدون اللبنانية في أيار مايو 1988"في المرحلة الأولى كان الهدف المرور بين القرى في القطاع الشرقي والقول للسكان: أيها السادة، لما فيه صالحكم لا تتعاونوا مع المخربين، لا تسمحوا لهم بالبقاء عندكم ليلاً، لا تقدموا لهم مخبأ، لا تساعدوهم بأي شكل من الأشكال، وإلا فلن نسمح لكم بإدارة شؤون حياتكم بشكل طبيعي". فمن الصعب ايجاد مبرر عملياتي لما يقوم به الجيش الاسرائيلي من مجازر في صفوف المدنيين، بالنظر الى ماهية الهدف ونتائجه العملية سوى الارهاب المجرد. ومن الممكن ايضاً مشاهدة توظيفات خارج ما هو معلن، منها تحقيق أهداف داخلية اسرائيلية ومصالح حزبية ضيقة، ضمن أهداف عدة، منها رفع الروح المعنوية، وتسمى ب"عمليات انتقامية"كنشاط ينطوي على مبادرة هجومية أكثر من كونه ردة فعل. فالاغتيال والتصفية بمثابة جزء من تشريع وعقاب وعمليات قضائية عنصرية صهيونية، ترمي الى تطبيق"القانون"الإسرائيلي بحذافيره، وبالإمكان"تبريره"من دون وقوع حدث مسبب، وباعتبار أن"الحدث قيد التخطيط"أو"في مراحل التنظيم الأولى"أو"احباط اعتداءات محتملة"قبل أن تقع. ومقرونة بنشاط إعلامي جاهز، موازٍ ومرتب مسبقاً على ضوء احتمالات النتائج. ومع اتخاذ القرار لتنفيذ اعتداء مدبر، يواجه صانعو قرار الاغتيال الإسرائيلي مجموعة من الأساليب البديلة لتنفيذ المهمة"غارة جوية، هجوم أرضي، نشاط بحري، عمل استخباري للنيل من الهدف"، أو دمج اكثر من أسلوب معاً. وفي التجربة الفلسطينية تم استخدام كل الأساليب مندمجة ومنفردة، وإن تم التركيز على غارات سلاح الجو وعلى القصف الجوي في الآونة الأخيرة، باعتباره الوسيلة الإسرائيلية"الأكثر وفاء بالأهداف"، فهي ليست بحاجة الى استعدادات مسبقة ومعقدة، كما أن هذه الأعمال تنطوي على أخطار أقل. فالهجوم الجوي يتطلب فقط معلومات مسبقة عن موقع الهدف وماهيته ونشاطه، طالما من غير المهم سقوط ضحايا ومواطنين اثناء القصف، وبهذا وفق التجربة الإسرائيلية لا يوجد هدف بعيد أو قريب، فهي لم تستثن عمق الدول المجاورة والدول البعيدة، نظراً لما يتوفر لها من استخدام وسائل قتال حديثة مثل الأسلحة الذكية وقصف جوي ليلي ونهاري. ولهذا اعتمادها على سلاح الجو في الاستخدام المبالغ به بالاغتيال وإن دمجت به أحياناً صنوفاً أخرى بعمليات مشتركة، ككل من اسلحة المشاة والمدرعات والمدفعية. إن مزايا القصف الجوي عديدة، من وجهة النظر الإسرائيلية، فهي تنطوي على إمكان التنفيذ ضد أهداف خلال فترة زمنية قصيرة للغاية ومراحل تخطيط قصيرة بالمقارنة بالاساليب الأخرى واستخدام معلومات الاستخبارات في زمن قياسي وقدر متدنٍ من الخطر على منفذي القصف من دون الاكتراث الى ما يحدثه من اضرار وقتل بحق السكان وتعريضهم للموت. وهو ناجم عن مخاوف استخدام قوات ضخمة من سلاح المشاة، الأمر الذي يرفضه المنهج الإسرائيلي، حسب قول رحبعام زئيفي:"لا يمكن التصدي بوسائل تقليدية". فالهجوم البري قد لا يتوخى الدقة والتعامل مع ما هو متغير ومفاجئ، وينطوي على خطر شديد، منه تدهور الوضع العسكري والتورط والاكتشاف المبكر ووقوع أخطاء ومعلومات وتخطيط غير دقيق، ما يعرضه الى انتقادات عنيفة بشأن الكلفة البشرية وجدوى التنفيذ، إضافة الى ردود فعل وانعكاسات دولية. * كاتب فلسطيني