الأخضر يواصل تدريباته استعدادا لمواجهة العراق في خليجي 26    نوتينغهام يواصل تألقه بفوز رابع على التوالي في الدوري الإنجليزي    في أدبي جازان.. الدوسري واليامي تختتمان الجولة الأولى من فعاليات الشتاء بذكرى وتحت جنح الظلام    طارق السعيد يكتب..من المسؤول عن تخبطات هيرفي؟    عمومية كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية ل"خليجي 27″    السلطات الجديدة في سوريا تطلق عملية بطرطوس لملاحقة «فلول النظام المخلوع»    وزارة الثقافة تُطلق المهرجان الختامي لعام الإبل 2024 في الرياض    بموافقة الملك.. منح وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الثالثة ل 200 متبرع ومتبرعة بالأعضاء    السعودية: نستنكر الانتهاكات الإسرائيلية واقتحام باحة المسجد الأقصى والتوغل جنوب سورية    الجيش اللبناني يتهم الاحتلال الإسرائيلي بخرق الاتفاق والتوغل في مناطق جنوب البلاد    أسبوع أبوظبي للاستدامة: منصة عالمية لبناء مستقبل أكثر استدامة    مدرب قطر يُبرر الاعتماد على الشباب    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    تدخل جراحي عاجل ينقذ مريضاً من شلل دائم في عنيزة    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    السعودية رئيسًا للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة "الأرابوساي" للفترة ( 2025 - 2028 )    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    وطن الأفراح    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    المملكة ترحب بالعالم    حلاوةُ ولاةِ الأمر    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    مسابقة المهارات    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حزب الله واستراتيجية الاعياء وخيارات اسرائيل المحدودة
نشر في الحياة يوم 09 - 12 - 1998

تواجه اسرائيل منذ فترة مأزقاً لم تعهده منذ تأسيسها قبل خمسين عاماً. فالدولة العبرية لم تشهد ازمة كالتي تشهدها في جنوب لبنان، ولم تواجه انقساماً كالحاصل اليوم نتيجة احتلال القوات الاسرائيلية لمناطق في جنوب لبنان والبقاع الغربي.
خلال تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي كانت المناقشات داخل الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة او الكنيست تتمحور على كيفية الاحتفاظ بالاراضي العربية المحتلة او التخطيط لاحتلال وضم المزيد منها. اما النقاش الدائر اليوم في الشارع الاسرائيلي فهو كيفية الخروج من جنوب لبنان، من دون التوقيع على اتفاق سلام مسبق، كانت تشترطه اسرائيل، مع لبنان. اسرائيل، التي تراوغ اليوم في الانسحاب من اراض في الضفة الغربية تعهدات بالتنازل عنها في اتفاقات موقعة مع السلطة الفلسطينية، تعرض الانسحاب مقابل مجرد ضمانات امنية من الحكومة اللبنانية. هذا في حين تعلو اصوات عديدة داخل اسرائيل تدعو لانسحاب من جانب واحد من دون اي شروط، وهو أمر لم يسبق اعلانه في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي. والمدهش في كل هذا ان مسبب هذه الازمة الكبيرة هم بضعة مئات من المقاتلين العقائديين المصممين على النصر وطرد اسرائيل من ارضهم. وسائل الاعلام المحلية تسميهم رجال المقاومة الاسلامية، في حين تسمّيهم وسائل الاعلام الغربية "مقاتلي حزب الله المدعومين من ايران" اما الاعلام الاسرائيلي فيسميهم "ارهابيين".
يطلق الباحثون في الشؤون العسكرية على طبيعة المواجهة الدائرة في جنوب لبنان بين مقاتلي حزب الله من جهة والجنود الاسرائيلين وميليشيا "جيش لبنان الجنوبي" من جهة اخرى اسم "حرب العصابات". ويعود نجاح هذا النوع من الحروب الطويلة والمضنية الى استراتيجية ثابتة تضعها وتشرف عليها قيادة سياسية منظمة بشكل جيد وفعّال.
ما سوف نستعرضه في هذا المقال هو شرح استراتيجية حزب الله ومناوراته الداخلية والخارجية، وكيف قامت اسرائيل بمواجهتها وما تنوي القيام به على صعيد تعديل تكتيكها العسكري وتسليم قيادة سلاح الجو الاسرائيلي زمام المبادرة، حسبما افادت بعض وسائل الاعلام والمراقبين في اسرائيل. وشرح هذا التكتيك الجديدة في دراسة قدمها للقيادة عقيد احتياط في القوات الجوية الاسرائيلية.
استراتيجية حزب الله
الاستراتيجية الامثل لشعب يواجه عدواً قوياً احتل اراضيه او جزءاً منها هي الاستراتيجية غيير المباشرة، التي كتب عنها العديد من الباحثين العسكريين ابزرهم ليدل هارت. الاستراتيجية غير المباشرة تدعو الى تجنب اي مواجهة عسكرية شاملة مع عدو قوي عسكرياً وقادر على تحطيم جيش الخصم وتدمير مقوماته وبنيته التحتية. فالحال الوحيدة التي ينصح فيها الباحثون بشكل عام بالمواجهة الشاملة المباشرة هي تكافؤ القوى بين دولتين متحاربتين، وبالتالي تدعى استراتيجية مباشرة. اما الاستراتيجية غير المباشرة فتنص على اللجوء الى سبل سياسية واقتصادية وعسكرية للوصول الى الهدف. ويسعى الطرف المحتلة اراضيه في هذه الاستراتيجية الى تحطيم معنويات العدو وجبهته الداخلية. فالهدف في الحرب بالنسبة الى الباحث والمؤرخ العسكري البريطاني هارت، هو "اخضاع ارادة المقاومة لدى العدو، بأقل خسارة اقتصادية وبشرية ممكنة".
الاستراتيجية غير المباشرة هي اكثر انواع الاستراتيجيات ملاءمة للاستراتيجية الثورية التي تتبعها عادة القوات التي تسعى لتحرير اراضيها او العمل على قلب النظام داخل الدولة. وتلجأ القوات الثورية في هذا الحالة الى "مناورة الاعياء" اي محاولة الوصول الى الهدف عن طريق الضربات المستمرة والمتنوعة والمفاجئة داخلياً بالتنسيق مع حملة اعلامية وديبلوماسية وسياسية خارجياً لوضع الخصم تحت حمل ثقيل تدريجياً.
مبادئ الحرب الثورية
أفضل من حدد أسس ووسائل الحرب الثورية كان ماو تسي تونغ، قائد الثورة ومؤسس الصين الشعبية. وقواعد حرب العصابات التي تكلم عنها في كتابه "عن حرب العصابات": التلاحم الوثيق بين السكان ورجال العصابات المقاومة - الانسحاب امام تقدم معاد قوي - ازعاج وهجوم امام انسحاب العدو. واذا ما قارنا اسلوب حرب العصابات التي ينتهجها حزب الله والقواعد التي وضعها ماو تسي تونغ للاحظنا تقارباً كبيراً جداً.
إن علاقة حزب الله بغالبية سكان المنطقة الحدودية جيدة. وهذا نابع عن ثلاثة عوامل: اولاً، ان مقاتلي الحزب هم بغالبتيهم من ابناء المنطقة، ولدوا وترعرعوا فيها. ثانياً، ايمان سكان الجنوب اللبناني بعدالة قضية المقاومة وشرعيتها ورغبتهم برؤية الاسرائيليين خارج اراضيهم. ثالثاً، رعاية حزب الله لمصالح الاهالي المعيشية والسكنية والطبية عن طريق الخدمات التي تقدمها مؤسسات الحزب الانسانية والطبية والاجتماعية والعلمية المنتشرة في الجنوب والبقاع.
كما ان مقاتلي الحزب يتفادون المواجهة الجبهوية المباشرة عندما يكون العدو بوضع الهجوم. فهم يفضلون الانسحاب والانتشار ونصب كمائن صغيرة للقوات المعادية. فحزب الله يعلم ان المواجهة الجبهوية المباشرة مع عدو قوي ستكون نتائجها وخيمة على قواته. لذلك، يؤثر مقاتلو الحزب ازعاج العدو عن طريق هجمات بالمتفجرات والصواريخ المضادة للدروع الموجهة سلكياً.
ولم يلتزم حزب الله بتجربة ماو تسي تونغ فحسب، بل قام بتطويرها، وتطوير تكتيكاته لتتناسب مع نوعية الارض والاهداف واسلحة العدو، فهو بدأ بالهجمات الانتحارية مستهدفاً قوافل وحواجز ومراكز الجيش الاسرائيلي او ميليشيا جيش لبنان الجنوبي. فردّ الاسرائيليون بوضع اجراءات منع بموجبها سكان المنطقة الحدودية المحتلة من التنقل في السيارات منفردين وفرض وجود شخصين على الاقل داخل السيارة. ثم لجأ الحزب الى نصب الكمائن. فقامت مجموعات صغيرة بالتسلل الى داخل الشريط المحتل ومهاجمة دوريات وحواجز العدو. فعدل الاسرائيليون من تكتيتهم بتقليص قواتهم النظامية داخل الحزام الامني واعادوا توزيعها بطريقة خففوا من خلالها حجم انتشارهم الجغرافي وعهدوا بقوات المظلات الخاصة بالمهمات الامنية، اذ ان المظليين مدربون بشكل افضل من الجيش - اي المشاة - على حرب العصابات. فطور حزب الله من تسليحه مستعملاً صواريخ أ.ت-3 ساغر و"أ.ت-4 سبيغوت الروسية الصنع. وهي صواريخ موجهة سلكياً يبلغ مداها اكثر من ألفي متر. وألحق هذا السلاح اضراراً واصابات عديدة في صفوف الاسرائيليين. وردّ الاسرائيليون بإسناد دور اكبر للمواكبة الجوية للقوافل وتقليل عدد المراكز الثابتة لجنودهم والقيام بنصب كمائن ليلية للمقاومين. وهنا كان رد حزب لله ملائماً وسريعاً. فلجأ الى تكتيك القصف المركز والمكثّف بمدافع الهاون وصواريخ الكاتيوشا للمواقع الثابتة، ما نقل الرعب الى داخل المركز حيث كان يأمل الجنود الاسرائيليون بالشعور بالأمان بعد ان كانوا منذ فترة وجيزة في دورية يترقبون بخوف انفجار لغم أو صاروخ مضاد للدروع بآلياتهم. كما حصل مقاتلو حزب الله على اجهزة للرؤية الليلية واضافوا عاملاً من عوامل المفاجئة بشن هجمات ليلية ضد الاسرائيليين والافلات من الكمائن المضادة للمظليين الاسرائيليين. كما حاول الاسرائيليون ارهاب اهالي الجنوب واستحداث هوّة بين مقاتلي الحزب والسكان عن طريق القصف الانتقامي للمناطق السكنية مقابل الشريط الحدودي. فلجأ حزب الله الى القصف المضاد بصواريخ الكاتيوشا للمستعمرات اليهودية في شمال اسرائيل. فكان رد الفعل الداخلي في المستعمرات الشمالية اكبر واكثر وقعاً على الحكومة الاسرائيلية مما كان على علاقة حزب الله بأهالي الجنوب. واضطرت الحكومة الاسرائيلية للموافقة على ما يعرف اليوم بتفاهم نيسان الذي ينص على عدم التعرض للمدنيين من الطرفين. هذا النجاح المتكرر ولد ثقة كبيرة داخل مقاتلي المقاومة بأنفسهم وبقيادتهم، في حين يجد الجنود الاسرائيليون أنفسهم في حال من الخوف من المجهول. فهم لا يعلمون كيف تجب مواجهة خصم لا يتقيد بأنظمة محدودة للقتال التي تتبعها الجيوش النظامية، وقيادتهم السياسية تتخبط حائرة بكيفية التعامل مع هذا الموقف اليائس.
جهاز الاستخبارات
من اهم العوامل التي رجحت كفة المواجهة في جنوب لبنان لصالح حزب الله هي جهاز المعلوماتية المتفوق للحزب. فباعتراف العديد من المحللين العسكريين والقادة الاسرائيليين، استطاع الحزب تشكيل جهاز مخابرات معلوماتي معقّد وفعّال مؤلف من مخبرين داخل المناطق المحتلة وفي صفوف "جيش لبنان الجنوبي" يقوم برصد تحركات العدو وابلاغها الى قيادة الحزب. ففي دراسة مفصلة للعقيد في الاحتياط في سلاح الجو الاسرائيلي شموئيل غوردون، نرى عجز اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية عن خرق صفوف حزب الله، وذكر ان لدى الحزب "العديد من المخبرين والمراقبين من داخل صفوفهم ومن بين السكان المدنيين للحزام الامني، الذين يزودونه بمعلومات دقيقة وبوقت قصير عن اهداف محتملة ومتحركة كالدوريات والقافلات ومعلومات تساعد على اتخاذ قرار فوري بالهجوم او الانسحاب. ان اهم عمل استخباراتي استطاعوا مقاتلو حزب الله تحقيقه هو معرفتهم بوسائل جمع المعلومات للاستخبارات الاسرائيلية، ويعلمون الآن كيف يحرموننا الاسرائيليون من الحصول على المعلومات بوقت سريع". فنجاح الاستخبارات الاسرائيلية في الماضي هو الذي ادى الى فشل غالبية عمليات التنظيمات الفلسطينية التي انطلقت من جنوب لبنان في السبعينات والثمانينات. ويذكر كل من عاصر الفترة ان في معظم العمليات الفلسطينية كان "الفدائيون" يقتلون قبل بلوغهم الهدف اذ كانوا دائماً يجدون كميناً اسرائيلياً بالمرصاد. اما عمليات حزب الله فهي ناجحة بغالبيتها مما يثبت عجز المخابرات الاسرائيلية ضده.
مناورات الحزب الاعلامية والخارجية
سجل حزب الله نجاحاً آخر باستغلال سلاح الاعلام والدعاية بشكل جيد فوسائل الاعلام عادة تحبذ تغطية القصص التي تحتوي قضية سامية كالتحرير والثورة. فبعد بداية سيئة من العلاقات بين الحزب ووسائل الاعلام عموماً، والغربية خصوصاً بسبب دمج صورة الحزب مع صورة الرهائن الغربيين، استطاع الجهاز الاعلامي ازالة هذه الصورة بفضل الترويج الجيد لعملياته. فتصوير المقاتلين وهم ينفذون عملياتهم الناجحة واقتحامهم لبعض المراكز الاسرائيلية وعلى خطوط المواجهة نالت اعجاب العديد من شبكات التلفزة الدولية وحطمت من معنويات الشارع الاسرائيلي. وهكذا تطورت صورة الحزب من مما كان يسمى بحركة اصولية ارهابية الى تنظيم مقاوم للاحتلال الاسرائيلي. وهذا يساعد الحزب والحكومة اللبنانية، التي تؤمن الغطاء السياسي الدولي للمقاومة الاسلامية والوطنية، على شن حملات ديبلوماسية وسياسية عربياً ودولياً من أجل طرد الاسرائيليين من جنوب لبناني. كما ان سياسة الحكومة اللبنانية بربط المسار اللبناني مع المسار السوري بمحادثات السلام مع اسرائيل اعطى مقاتلي الحزب وعملياتهم وزناً اكبر سياسياً واستراتيجياً اذ باتوا يشكلون اهم وسيلة ضغط، ان لم تكن الوحيدة، على طاولة المفاوضات مع العدو. واذا ارتأينا ان هناك تنسيقاً تاماً بين الحزب والحكومتين اللبنانية والسورية، كما يعتقد العديد، فان الاستراتيجية غير المباشرة حددت أطر المواجهة مع اسرائيل وشددت على منع تطورها الى مواجهة مباشرة شاملة لن تكون من صالح لبنان وسورية. لذلك يجب ابقاء المواجهة ضمن اطارها الحالي المحدد الذي يعتمد على حرب العصابات من اجل اعياء واستنزاف العدو وتحطيم معنويات جنوده وضعضعة مشاعره السياسة داخلياً حتى التوصل الى الهدف الاسمى وهو الانسحاب من جنوب لبنان والبقاع الغربي، وربما هضبة الجولان السورية. الاستراتيجية غير المباشرة، التي تعرف ايضاً باسم استراتيجية صراع طويل الأمد، تسعى "الى اتعاب العدو وانهاكه معنوياً… وهو صارع يتصف بطول امده وضعف حدته في حروب التحرير، يؤدي غالباً الى نتائج ناجحة!!
الحرب الجوية المضادة
مبدأ استخدام سلاح الجو الاسرائيلي، وهو عصب القوات الاسرائيلية، ليس بجديد. واقترح مراراً من بعض القادة الاسرائيليين كان آخرهم العقيد غوردون. ونظريته قائمة على اساس ان سلاح الجو يؤمن كثافة نيران ودقة بإصابة الأهداف ورد أسرع من القوات البرية. كما ان لسلاح الجو مقدرة اكبر من القوات البرية ستقلل من نسبة الخسائر البشرية في صفوف الاسرائيليين اذ ان رجال المقاومة لا يملكون وسائل دفاع جوي فعّالة امام الطائرات الاسرائيلية المتطورة. يقول غوردون في الدراسة، التي حملت عنوان "العقاب والحيّة: الحرب الجوية المضادة لحرب العصابات"، ان عقيدة الجيش الاسرائيلي القتالية والقائمة على مبدأ الهجوم الدفاعي اخقت أمام حرب عصابات يشنها مقاتلون ذو عقيدة قتالية مبنية عل إلحاق أكبر حجم من الخسائر البشرية في صفوف خصومهم. فالقصف المدفعي والدوريات ومطاردة مقاتلين في الوديان، كلها تكتيكات اخفقت في ردع هجمات حزب الله.
واقترح غوردون في دراسته تشكيل "قوة تدخل خاصة في سلاح الجو" تتولى التخطيط وقيادة كل العمليات على ارض المواجهة في جنوب لبنان. وتوضع بتصرف "قوة التدخل الخاصة" اسراب مقاتلة وطائرات هليكوبتر هجومية، وطائرات استطلاع من دون طيار، وطائرات هليكوبتر للنقل واجلاء المصابين، ووحدات كوماندوس، وتكون جميعها على اهبة الاستعداد للتحرك على مدار الساعة. وتلحق قيادة القوات البرية والمدفعية المتمركزة في الحزام الامني بقيادة "قوة التدخل الخاصة" من اجل تطوير العمليات والتنسيق بين مختلف القطاعات العاملة .
ويتصور غورودون طريقة عمل "قوة التدخل الخاصة" على الشكل الآتي: طائرات استطلاع من دون طيار تجوب اجواء الحزام الأمني الذي يبلغ طوله سبعين كيلومتراً وعمقه ثلاثين كيلومتراً. وعندما ترصد هذه الطائرات مجموعة من حزب الله ترسل فوراً طائرات هليكوبتر هجومية او طائرات حربية لقصفهم، وترسل ايضاً وحدة كوماندوس منقولة جواً للتمركز خلف المقاومين واصطيادهم اثناء محاولتهم الانسحاب. كما يدعو غوردون لوقف قافلات التموين واللجوء للطائرات العمودية لتأمين الذخائر والاغذية للمراكز الثابتة، والى دعم الدوريات البرية المؤللة بتغطية جوية دائمة. ويأمل غوردون في حال تبني الحكومة الإسرائيلية لنظريته بأن يحد هذا التكتيك الجديد من عمليات حزب الله.
ان تكتيك غوردون من الناحية العملياتية مكلف جداً مادياً، اذ يستوجب حركة اكبر لسلاح الجو. كما ان طائرات الاستطلاع ووسائل الرصد عبر الاقمار الاصطناعية لا تستطيع ان تغطي كل انش في المنطقة المحتلة على مدار الساعة، والمقاتل الصبور والمتكيّف مع طبيعة الارض، سيجد دائماً الوسيلة والفرصة الملائمتين للتغلغل وسط وديان واحراج المنطقة، التي بدورها تؤمن غطاء طبيعياً لتحركاته. وقال الناطق الرسمي باسم قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان تيمور غوكسيل في مؤتمر صحافي خاص عام 1995 ان "رجال المقاومة هم انفسهم اهل المنطقة. فهم الراعي والمزارع والبائع القاطنون في هذه القرى التي تحتلها اسرائيل. فنحن لا نستطيع ان نبعدهم كما كنا نفعل بالمقاتلين الفلسطينيين في السابق. فرجال المقاومة هم لبنانيون ولن يستطيع احد منعهم او ايقافهم من مهاجمة اسرائيل".
كما ان تكتيك العمليات الجوية المركزة التي يتكلم عنها غوردون لن يمنع المقاومة من قصف مواقع العدو بمدافع الهاون وصواريخ الكاتيوشا. فهي من اسلحة المدفعية الخفيفة الوزن التي يسهل نقلها بسرعة قبل ان يحدد العدو مصدر نيرانها ويرد عليها. باختصار، تكتيك الحرب الجوية المضادة لحرب العصابات قد يحدّ شيئاً ما من حركة المقاومين، الا انه لن يستطيع ايقافها. وسيستمر حزب الله بشن الهجمات طالما لديه مقاتلون مصممون على اعياء العدو ولا يخشون الموت كأعدائهم.
اما بالنسبة لما يُحكى عن خيار استهداف المدنيين او البنية التحتية اللبنانية فهو خيار يائس كما يقول العديد من المحللين وخصوصاً في اسرائيل. فإن أي غارة سيقابلها قصف بالكاتيوشا على المستوطنات في شمال اسرائيل ما سيؤدي الى انهيار تفاهم نيسان. وستجد الحكومة الاسرائيلية نفسها في مأزق قد تضطر بسببه الى اللجوء الى سورية وهو ما لا تريده. فالخيار الاستراتيجي للحكومة الاسرائيلية هو عدم الانسحاب من طرف واحد حتى لا تشجع أياً من سكان الاراضي العربية المحتلة من اللجوء الى المقاومة على غرار حزب الله املاً بالتحرر. وتريد اسرائيل الابقاء على الوضع الراهن في الحزام الامني المحتل مع تغير التكتيك للحد من خسائرها البشرية بانتظار تطور سياسي يعيد المفاوضات المجمدة على المسارين اللبناني والسوري.
وتأمل اسرائيل ان تكون اولى نتائج المفاوضات الانسحاب من الرمال المتحركة في جنوب لبنان. هذا اذا لم تبلغ الازمة السياسية داخل اسرائيل درجة تدفع بالحكومة الى الانسحاب من طرف واحد والقبول بالهزيمة امام حزب الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.