أهم ما يُميز رواية "عطر البرتقال الأخضر" للروائي شريف حتاتة دار الهلال، تموز/ يوليو 2006، أنها نص مختلف عن أعماله السابقة. فهي تكشف عن تقنية جديدة في منهجه، أوتخلو من السرد التفصيلي الطويل الذي عهدناه في أسلوبه. في الصفحة الأولى نتعرف بسرعة، وفي شكل ضمني، على معظم ملامح البطل الروائي المعروف يوسف البحرواي. إنه رجل يحيا في عزلة تامة بين الهياكل والجثث، كل شيء في حياته مُوحش. الزهور سقطت أوراقها فصارت تتفرس فيه بعيونها الصامتة، وقرص الشمس يسقط في الغيوم الداكنة فوق المدينة. كل يوم ينتظر قدوم الليل، ليمد يده باحثاً عن يدها في الظلام فلا يجدها. الجملة الأخيرة على قصرها تُثير التساؤل حول شخصية إمرأة غامضة، لا ندري من هي، ولا نعرف حكايتها وما هو السر وراء غيابها ؟! في الصفحة التالية مباشرة نتعرف، بالإيحاء، على خصائص بطلته الثانية سحر بدوي بأنفها المشاكس، وابتسامتها المترددة الخجولة وبساطتها وعشقها الكتب... تُشكل الشخصيات الثلاث الركائز المحورية للرواية. تُروى الأحداث من وجهة نظر الباحثة الشابة سحر بدوي التي جاءت من الريف، من أسرة فقيرة قطباها أم حنون، وأب شديد القسوة... كانت فتاة فلاحة"تحش"البرسيم، وتدك قدميها في المعجنة، لكنها تسلحت بالتحدي والعناد، فشقت طريقها الى الدراسة الجامعية. اختارت الكتاب"الروائيين"ليكونوا موضوع بحثها للحصول على الدكتوراة. كان يوسف البحراوي هو كاتبها المفضل، لكنه توقف فجأة، عن الكتابة. راجت الإشاعات الكثيرة المترددة حول إختفاء زوجته سحر العمري عازفة العود ومؤلفة الأغاني الشهيرة، وأهمها اتهامه بقتلها. مع ذلك قررت الباحثة أن تذهب إليه، أن تنقب في أعماق هذا الإنسان، أن تبحث عن الحقيقة في ما وراء الصمت، وأن تتحدى عزلته والغموض الذي أحاطه. سألته. هل يستطيع الإنسان تعويض ما أفرط فيه من قبل؟. انتفض يوسف مثل الطائر الذبيح عندما بدأت في نبش أشلاء ماضيه، وغرس أسئلتها في جرحه. رفض مجاراتها وعزم على صدها، وعلى إنهاء المقابلة. لكنها أمام المصعد وقبل أن تغادر، تُخبره أنها مثل المرأة التي وصفها في روايته تعشق غرس أسنانها في قشرة البرتقال الأخضر، هل كانت هذه الجملة هي المفتاح لعقل الروائي هذا وقلبه، أم أن تلك المرأة الشابة ذكّرته بإمرأة أخرى من الماضي القريب، الماضي الحاضر بقوة؟ تتطور العلاقة بينهما وتنتقل من الإحجام إلى التجاوب التدريجي، من التردد والارتباك إلى تيار متبادل يسري بينهما، تيار يُغلفه الحب. ثم تكتشف سحر أن حوارها معه يستحق أن يكون موضوع مسرحيتها الأولى"عطر البرتقال الأخضر". مع ذلك تظل العلاقة بينهما غامضة، خصوصاً مع النهاية المفتوحة المبهمة، فعندما تُخبره أنها ستتصل به باكرًا لا يُجيبها، يدخل شقته ويُغلق الباب خلفه غارقاً في الصمت. "عطر البرتقال الأخضر"هي رواية قصيرة، 112 صفحة، بل نص مفتوح، تضم حكايات شقيّة وتداعيات تأملية يكتنفها الشجن حيناً والبهجة حيناً. حكايات محكمة البناء الفني. وكعادته يعمد الكاتب الى تكسير الزمن كما معظم أعماله لكن هذه الرواية تتمتع بالإيقاع السريع المسيطر على أجوائها. فهي شديدة التكثيف والإيجاز والعمق. والجمل تلغرافية، والحوار برقي لكنه مُبطن بالإيحاء والرمز، وبكثير من الأسئلة والمعاني، مثلاً: تُخبره سحر أنها اختارت الكتابة للمسرح لأن ما رأته يبعث على السخرية، فقررت أن تُدافع عن كيانها بتغذية روح السخرية. يسألها:"هل نجحت"؟ تُجيبه:"ليس دائماً"، ويلمح في عينيها لمعة الألم. يقول:"هل كان متزوجاً؟".تهمس:"نعم.. كان متزوجاً"... ما عدا هذه الكلمات القليلة لن نجد أي إشارة أخرى للعلاقة الغامضة التي تركها المؤلف لخيال القارئ، لكنه ألقى بها عمداً ليستكمل بقايا الظلال المكونة لصورة بطلته الشابة، وليستحضر بها شخصية سحر العمري وعلاقتها غير الواضحة بالصحافي اليساري حلمي طرخان، زميلها أيام الحركة الطلابية، فيُعيد إلى الأذهان مأساة انتحار الكاتبة أروى صالح. هل كان حتاتة حقاً يقصد أروى عندما رسم شخصية سحر العمري؟ عُدت إلى كتابات"أروى"، إلى ما نُشر عنها عقب انتحارها فاكتشفت مقالة للمؤلف بعنوان"رقصة الموت الجميل"، ربط فيها بين الإحباطات العامة لأبناء جيلها في الحركة الطلابية، ومأساتها كامرأة أحبت وتزوجت وسعت الى تكوين أسرة وهي تشق طريقها في العمل والنشاط السياسي. يُضيء شريف حتاتة في روايته، بأسلوب مشبع بالأسى والشجن العميق، جوانب من علاقة الرجل بالمرأة في ما يكتنفها من أنانية الرجل وقدرة المرأة على التضحية، ويتعمق في انتقاده مؤسسة الزواج كما تمارس بين طرفيها في المجتمع. انتحرت أروى صالح ظاهراً لكن الحقيقة أن المجتمع ساهم في قتلها خصوصاً الرجال المثقفين الذين عرفتهم في حياتها... في كتابها"المبتسرون"كتبت أروى أن المثقف يسلك في علاقته بالمرأة كبرجوازي كبير، أي كداعر، ويشعر ويفكر تجاهها كبرجوازي صغير، أي كمحافظ مفرط في المحافظة.. في الرواية سحر العمري لم يقتلها السرطان إنما العلاقة غير السوية بينها وبين الرجل. قتلها طرخان أولاً ثم أعاد زوجها فعل القتل مرات ثلاثاً الأولى عندما اكتشفت أنه جزء من لعبة قذرة يُخطط لها من دون أن يدري، فانهارت أحلامها في المناضل الذي عرفته ملتزماً قضايا المجتمع، فكتبت أغنية تقول:"لم يعد لعودي رنين". والثانية عندما اتهمها بوجود علاقة بينها وبين أحد زملائها الملحنين فنفت ذلك قائلة:"لا... لم أذهب معه إلى السرير، لكنني الآن نادمة على ذلك. على الأقل لو فعلت كنت أعطيت جسدي إلى رجل يستحقه". والثالثة حينما رفض مساعدتها في التخلص من آلامها، فاكتشف أنه لم يُحبها ما يكفي. عندما أدرك يوسف البحراوي خيوط اللعبة القذرة التي كان جزءاً منها أغلق على نفسه الباب، تخلى عن عالمه الروائي، وترك نفسه للألم يعتصره، وأصبح كأنه يستوطن الجحيم. بات يحيا على ذكريات لو تمكن من نسيانها لشعر بالراحة..."ذكريات حولت حياته كابوساً أصبح أسيره"، ولكن هل تنجح الفتاة الشابة في أن تُخرجه من أزمته الفكرية، وأن تُحرره من ماضيه؟ رواية شريف حتاتة هي لوحة تشكيلية متعددة الأبعاد زماناً ومكاناً، تحضر فيها هموم الذات والآخر عبر الخطوط العريضة لأبطالها الثلاثة: البحراوي وزوجته الغائبة والباحثة العنيدة. في الرواية"رتوش"خاطفة أو هامسة عن هموم الوطن وقضاياه السياسية والاجتماعية... فالأحداث تجري على خلفية سياسية وفكرية في حقبة مهمة ومصيرية من تاريخ مصر هي حقبة السبعينات ومطلع الثمانينات. انها تُشير الى انتفاضة المصريين في العام 1977 ضد قرار الرئيس أنور السادات رفع أسعار السلع، وضد أسر السادات 1536 مناضلاً من كل التيارات والميادين وفي مقدمهم الكتّاب والمفكرون، وضد تدخل الأزهر في الأعمال الإبداعية ورفضه عدداً منها، واقتحام الرأسمالية عالم الصحافة... ترتكز الرواية على تراكم التفاصيل والتوازي والتشابه بين شخصيتي سحر بدوي، وسحر العمري. فالروائي ينتصر لفكره الزمن الداشري، الزمن الذي يُعيد نفسه في ظروف وملابسات أخرى مؤكداً ذلك عبر تكرار الأسماء حيناً، وتكرار مواقف الشخصيات مسالكها، خصوصاً النسائية، حيناً آخر. وهو ما يُعتبر اجابة غامضة وملتبسة عن السؤال الذي تدور حوله الرواية والذي تُعيده البطلة في نهاية العمل: هل يستطيع الإنسان تعويض ما أفرط فيه من قبل؟ وبحسب ما تشي الرواية يستطيع الإنسان ولا يستطيع. يُمكنه التعويض ولا يُمكنه. لعل ظهور سحر بدوي التي تقترب من روح سحر العمري قد يُوحي بهذا التعويض، لكنه ليس تعويضاً كاملاً. فظهورها في حياة يوسف البحراوي ساعده فقط على التحرر من بعض أثقال الماضي، وعلى أن يشعر بقدر من الراحة. لكنه أبداً لم يعوضه ولم يُعوضه عن سحر العمري، ولا عن اللحظات المفقودة في تلك العلاقة التي تمّ وأدها مبكراً.