من «النوافذ المفتوحة» يمكننا أن نبدأ، فالروائي والمفكر اليساري المصري شريف حتاتة، الذي غيَّبه الموت أخيراً عن عمر ناهز 94 سنة، لم يكن يكتب سيرته الذاتية فحسب، بل كان يبحث عن معنى أعمق للحياة، للجمال حين يواجه القبح، كان يسعى صوب تلمس العصب العاري للحرية، التي تتواتر بوصفها تيمة مركزية في أعماله الفكرية ونصوصه الروائية المختلفة. في «النوافذ المفتوحة» سيرة شريف حتاتة المدهشة بجسارتها وقدرتها على كشف المسكوت عنه على المسار الشخصي، عبر سرد نافذ ومجمل لجملة التحولات المجتمعية على المسار العام، في بنية متجانسة تجمع بينها تلك الذات الساردة التي لا تدعي شيئاً أو تلفق حدثاً، بل تقدم كشفاً أصيلاً للجوهر الثري للإنسان وقدرته على الفعل والمقاومة، تلك القدرة التي لازمت شريف حتاتة وجعلته ابناً للاختيار الحر. وهذه هي البنية المركزية في حياة حتاتة ومساراته الفكرية والإبداعية، ومن ثم كان خروجه من كنف عائلة أرستقراطية، إلى العمل السياسي التنظيمي، بغية الانتصار لأولئك المنسحقين والمقموعين الذين عاينهم في مستشفى قصر العيني الشهير في القاهرة. وهذا الانحياز الاجتماعي للمهمشين الذي كان ابناً للوعي الممكن بقدرته على الاستشراف والتخطي والمجاوزة، دفع شريف حتاتة أثماناً باهظة من أجله، فقضى نحو 15 عاماً من عمره في السجون والمعتقلات. ولذا لن يصف أي مثقف نزيه شريف حتاتة إلا بصفة المناضل، التي تكشف عن ملمح آخر من ملامحه المتعددة. فالتنوع الخلاق في مسيرة الكاتب الراحل فكرياً وجمالياً، وضربه بسهم وافر في أكثر من سياق حياتي ومعرفي، على نحو دال وعميق، جعلنا أمام مشروع ممتد لكاتب ومفكر من طراز رفيع. من تناقضات الحياة ومفارقاتها، ينطلق شريف حتاتة في نصوصه الإبداعية المختلفة، ومن المشاهدات التي عاينها، والتجارب التي عاشها، تجلت التيمات المركزية في أعماله، فكان السجن حاضراً، وكانت الحرية هاجساً أصيلاً، وكان الإطار (السياسي- الاجتماعي) يشكل سياقاً خارجياً دالاً على النص والحياة معاً. كان جدل السياسي والجمالي بنية مهيمنة في نصوصه، فكانت الأيديولوجيا عوناً على الفن، وبدت أقل حضوراً في أعماله الإبداعية الأخيرة؛ «رقصة أخيرة قبل الموت»، و«الوباء»، و«شريط الحزن الأبيض»، مقارنة بالبدايات. في «العين ذات الجفن المعدني» يمثل السجن بنية مهيمنة على النص، ويصبح محاولة الفكاك من أسره محاولة للهرب من سطوة واقع قاس ومعتم. في هذا العمل لا يكتفي حتاتة بالتوصيفات الخارجية للشخوص والأحداث، ولا يستنيم إلى حياة الحكي عن المعتقلات بوصفها حالة قادرة على تخليق الدهشة، بل يستبر جوهر شخوصه، فتصبح مجلى لشقاء مستمر لم يزل يقبع في النفس. يجد «عزيز» مثلاً أن كل شيء قد فقد قيمته، وبهاءه، وحيويته التي كان ينبض بها. وتتواتر أزمة البطل اليساري الممزق والذي يعاين أشكالاً من الخراب والتحول العاصف في بنية المجتمع، فتنحو رواية «الشبكة» صوب مساءلة الواقع المصري، ويمثل «خليل منصور خليل»؛ بطلها المركزي، والشاهد على تحولات حادة في ما هو قائم، حوَت ملامح تحققها في ما كان، في نص يتجه صوب التشويق الدرامي، ولحظات التوتر السردي المتسارعة، عبر مقتل الصحافية الأميركية «روث هاريسون» المرتبطة بصلات بأجهزة دولية، والتي يرتبط معها البطل بقصة حب، تتعرض شأن حياته جميعها للإخفاق. وفي روايته «عطر البرتقال الأخضر»، يمثل العنوان بنية دالة قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار الروائي، حيث تحب «سحر العِمري» أن تشم تلك الرائحة وهي تأكل البرتقال، وهو أيضاً عنوان لنص مسرحي ترغب الشخصية الأخرى المقابلة «سحر البدوي» أن تكتبه. فسحر البدوي باحثة شابة تحاول اقتحام حياة روائي اعتزل الكتابة؛ «يوسف البحراوي»، وتنجح في ما تريد. وهناك شخصيات كثيرة مثل الصحافي «عادل البطران» الذي يذكرنا بانتهازيته بصحافي الكاتب الفذ نجيب محفوظ في «اللص والكلاب»؛ «رؤوف علوان». وتمثل فترة السبعينات الزمن المرجع لتلك الرواية، فعلى رغم التفاصيل عن حياة البحراوي والعمري والبدوي فإن التحولات السياسية والاجتماعية حاضرة في أجواء النص، وفي الكثير من تفاصيله أحياناً. تتواتر تيمة «الأم» في نصوص شريف حتاتة الإبداعية، وتصبح عوناً على البهجة والحياة، وتعبيراً قلقاً أيضاً عن إشكالية جوهرية في نصوصه. وربما كانت روايته الأخيرة «شريط الحزن الأبيض» بمثابة التجلي الإبداعي الأبرز في هذا السياق. ففي هذه الرواية تحضر الأم منذ المفتتح وحتى الختام، لتشكل مركزاً للسردي. يبدو الراوي الرئيس مشغولاً بكل شيء، بالارتحال، والغربة، والسجن، والاعتقال، والأماني المجهضة، والأحلام النبيلة، مستعيداً عبرها جزءاً مركزياً من ذاكرته المقموعة، منطلقاً من لحظة الفقد الموجعة، التي مثَّلت حالاً من الكشف، واتساع الرؤية السردية. فالنشأة اللافتة للسارد/ البطل، جعلتنا أمام شخصية إشكالية بامتياز، يمزج بين ثقافتين متمايزتين، فأمه إنكليزية، وأبوه مصري، وتظلل علاقته بالأمكنة المختلفة حالاً من البهجة العابرة. فلا شيء يدوم في حياة السارد/ البطل، والانتقالات المكانية متواترة، بين القاهرة وبورسعيد والإسكندرية ولندن وباريس وبرشلونة، وغيرها، ويجسد الزمن الروائي داخل النص جملة الارتحالات المضطربة، فيأتي متداخلاً، يتجادل فيه الماضي مع الحاضر، ويصبح الاسترجاع أداة أصيلة في معرفة العالم الجديد من جهة، وفي الكشف عن مناطق حميمة داخل الذات الساردة وعالمها الثري من جهة ثانية. ومثلما حملت النصوص الإبداعية لشريف حتاتة موقفاً تقدمياً من العالم، يعد صدى لموقفه الطليعي في مناهضة الاستبداد والرجعية، والتوحش الرأسمالي، سنجد كتبه الفكرية تسائل الواقع المعقد لليسار في مصر والعالم، وتنحو صوب تقديم طروحات جديدة ومعالجات تغادر الأبنية العقلية الجاهزة، على نحو ما نرى في كتابه «فكر اليسار وعولمة رأس المال». وبعد... بدا شريف حتاتة معنى فريداً ونبيلاً في آن، اختار النضال والكتابة، في مواجهة القبح والاستبداد والعتامة، وكان موقفه التقدمي علامة على موقف واع بحق، فلم يهادن الرجعية وتجلياتها في الحياة المصرية، وهذه خيارات لا يقدر عليها سوى الحقيقيين، وقد كان حتاتة مثقفا حقيقياً، يعي جيداً أين يقف، وإلى أي فكرة ينتمي. اتسم بالتجدد، فكانت كتابته مزيجاً رهيفاً من الذاتي والموضوعي، وجدلاً خلاقاً بين الفني والسياسي، وانشغالاً مستمراً بالإنسان، جوهر المقاومة ومعناها الأصيل.