إنها يوميات حزينة مملوءة بمشاهد الموت والألم. تروي قصّة وطن وغروب أحلام... يوميات كنتُ فيها أعُدّ أيام الحرب على وطني لبنان يوماً، بعد يوم، بعد يوم... دمعة، بعد دمعة، بعد دمعة. وأكتبها في قلبي، قبل أن أكتبها على الورق. سبعة أيام هي في الواقع 34 يوماً، لم أُكمل عَدّها لشدّة تشابهها في الحزن والسواد. يوم أول لا أعلم إن كانت المشاهد التي تطالعني على الشاشة الصغيرة حقيقية، أم انه كابوس مزعج يطاردني. مبان شاهقة تنهار، جسور تاريخية تسقط، وقرى تتغيّر معالمها... المشهد أشبه بيوم الدينونة سفر الرؤيا. لا أريد ان أصدّق... لن أصدّق. مسمّرة أمام الشاشة الصغيرة، أتنقّل بين محطة تلفزيونية وأخرى، بين نشرة إخبارية وأخرى، مذهولة. لم أذهب الى عملي اليوم. علمّتنا الحروب المتتالية التي عشناها نحن اللبنانيين، ألا نتجوّل في الأيام الأولى للحرب، ريثما نفهم قواعد المعركة ومواعيدها. فلكلّ حرب قواعد ومواعيد وخطوط حمر لا يمكن تجاوزها حفاظاً على الحدّ الأدنى من السلامة والأمن الشخصي. ففي هذه الحرب مثلاً كانت الجسور هدفاً قاتلاً من الضروري تجنّبه، كذلك الشاحنات والباصات، بعدما هدّدت إسرائيل بقطع أوصال لبنان وقصف كلّ الشاحنات والباصات منعاً لوصول إمدادات الأسلحة والعتاد الى"حزب الله"، وإحكاماً للحصار المفروض على لبنان. أما الغارات التي تستهدف العاصمة اللبنانية، بيروت، وضواحيها فقد كانت تتركّز بمعظمها في فترات الليل وساعات الصباح الأولى، ثم تعود للتجدّد بين الساعتين الرابعة والخامسة بعد الظهر. يوم ثان دويّ الإنفجارات أقوى من كلّ صوت آخر. لا مكان للمعتدلين في ساحة المعارك. لا مكان للمطالبين بحقوق إنسان أو امرأة أو طفل، وقد باتت كلّها قضايا ثانوية أمام فجيعة القتل. فوق مكاتب"لها"الواقعة في الوسط التجاري في العاصمة اللبنانية، بيروت، تحوم طائرات غريبة، كأنها طيور سود تحلّق فوق جثث هامدة. أنظر الى الأوراق فوق مكتبي: مقابلة مع رلى دشتي المرشحة الى الإنتخابات النيابية في الكويت، مقابلة مع شيرين عبادي أول مسلمة تفوز بجائزة نوبل للسلام، تحقيق عن العنف الممارس ضد المرأة السعودية، تحقيق عن ختان البنات في مصر، تحقيق عن جرائم الشرف في الأردن... أيّ مواضيع أُضُمّن العدد المقبل من مجلة"لها"النسائية العربية، وكلها باتت مواضيع ثانوية أمام أخبار الموت والحرب. يؤسفني ان يسقط نضال صحافي طويل في مجال حقوق المرأة والطفل، مع سقوط أول صاروخ إسرائيلي فوق أرضنا. لطالما كان لبنان الصغير، منارة الشرق في مجالات الحرية والديمقراطية. فهل المطلوب أن تُطفأ هذه المنارة، ونقع جميعاً في ظلمة دامسة؟ يوم ثالث قوافل النازحين تتدفّق من الجنوب اللبناني، وتغصّ بيروت والمناطق الجبلية بالهاربين الذين افترشوا الشوارع والحدائق العامة والمدارس والملاعب الرياضية... ويُحكم الحصار أكثر فأكثر على لبنان، بعد قصف المطار والمرافئ والمعابر البرّية، لشلّ حركتها. مواد غذائية أساسية كثيرة باتت شبه مفقودة مثل حليب الأطفال وبعض الأدوية والطحين والوقود، وقد أقفلت المحال التجارية والمطاعم والمصانع أبوابها، وغابت مظاهر الحياة عن الوطن الذي كان يضجّ بألف حياة وحياة. "لبنان يبكي... كتبتُ لصديقة فرنسية، فهل من يسمع؟ لبنان ينزف، فهل من يضمّد جراحه؟ لبنان يلفظ أنفاسه، فهل من يمدّ له يد العون؟ أرجوكم إفعلوا شيئاً، اكتبوا مقالات في صحافتكم، اعتصموا، أضيئوا الشموع، أنقذوا هذا الوطن من براثن الموت". يوم رابع لطالما اعتبرتُ نفسي مواطنة من العالم، ونأيتُ عن الإنتماءات القومية الضيّقة. الصحافي الملتزم هو من لا يلتزم غير الموضوعية والتجرّد. وأيّ التزام آخر هو بمثابة قيود وأغلال تكبّل ولا تحرّر، وتهدم، ولا تخدم رسالة الحقيقة والإنسان. اليوم، أجثو فوق ترابي وأقول:"عذراً وطني، عذراً لبناني! أغسلُ ترابك البارّ بدموعي معترفةً، مجاهرةً: إنني لبنانية قبل أيّ شيء، وبعد أيّ شيء، وفوق كلّ شيء. يا وطني، يا لبناني، العالم كلّه من بعدكَ لا يكفيني. لبنانيةٌ أولاً، إذ كيف أحبّ أوطان الآخرين وأنا بلا وطن؟ اليوم أفهم أكثر جرح الفلسطينيين في شتاتهم وجرح أوطان ضائعة أخرى. أرجوك وطني إبقَ، من أجل الحبّ، ومن أجل الإنسان، ومن أجل الرسالة... يوم خامس "خانني صوتي فما عدتُ أستغيث،/ وتفكّكَتْ عظامي فلا أهرب./ أواجِه موتي واقفةً،/ وينظرني العالم، ويصفّق". كان هذا مطلع قصيدة كتبتُها وأنا أودّع وفود الرعايا الأجانب بالآلاف يتركون لبنان،"حفاظاً على سلامتهم". ولكن، ماذا عن سلامة أولئك الذين لا يملكون جنسيات مصنّفة درجة أولى؟ هل عليهم أن يواجهوا موتهم بصمت؟ أين حقّهم في النجاة؟ أين حقّهم في الحياة؟ أن تولد في دولة من دول العالم الثالث، لعنة ترافقك مدى الحياة، ولا تنجو منها إلا بعد أن تحصل على جنسية من الدرجة الأولى تردّ لك اعتباركَ كإنسان، وتؤمّن لك الحماية، ولأولادك المستقبل الكريم. أتذكّر أخبار قوافل المهاجرين المغاربة والتونسيين والجزائريين الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسّط يومياً الى أوروبا بطرق غير شرعية، فيلقون بأنفسهم في مراكب النقل الصغيرة، سعياً وراء الحلم بحياة أخرى أكثر أماناً. كثيرون منهم يقضون في البحر، وآخرون يُعاد ترحيلهم فور اكتشاف السلطات المعنية أمرهم. لكن هذا لا يوقف تدفّق القوافل المهاجرة. أيها الإنسان، قل لي ما هي جنسيتك، أقل لكَ ما هي حقوقكَ. نعم، إنه القرن الحادي والعشرون! يوم سادس أشدّ على عينيّ لتُنزلا ماءهما، لكنهما لا تفعلان. لا تذرفان دمعة واحدة. جفّت مقلتاي، فما عُدتُ أبكي. أنظر إلى جثث أطفال قانا ينتشلونهم في عزّ نومهم من تحت ركام، ويصفّونهم الطفل قرب الآخر على بلاط بارد، وأرتعد. كيف لصاروخ أن يخطئ هدفه في القرية نفسها مرتين المرة الأولى كانت في عدوان عام 1996؟ ذنب هؤلاء الأطفال الوحيد، أنهم آثروا أن يهربوا من صوت القذائف المنهمر كالمطر، من كابوس اليقظة، الى أحضان النوم والحلم الهانئ. في الحلم خبز كثيف وألعاب جديدة وورود عطِرة تحت شمس مشرقة. ناموا وحلموا... لكنهم لم يستيقظوا في صباح اليوم التالي. تقول إسرائيل إنها تشنّ حربها على لبنان من أجل السلام. منذ متى كانت جثث الأطفال طريقاً الى السلام؟ الحقُّ اننا شعب يريد أن يعيش من أجل السلام! ألبس الأسود، لون يشبه هذه الأيام، وألجأ الى الشعر وفيه خلاص، فأكتب قصيدة تحت عنوان"ورود قانا": "قالوا لي ان الورود تحمي: لن يمرّ الموت في قريتي مرة ثالثة! زرعتُ في حديقتي وروداً ملوّنة لن تقطف في عزّ شقاوتها. سأرسم للموت دوائر يضيع فيها وأدلّه على طرقات بعيدة فلا يعود"! ملاحظة مهمّة: لو عرفت منظمة الأممالمتحدة أنها أم شعوب العالم الثالث وأبوها، لما سَدّت أذنيها وأغمضت عينيها وكتّفت يديها، تاركةً أبناءها يموتون في ثياب النوم وبطونهم تزغرد جوعاً. يوم سابع سكتت المدافع. رحلت الطيور السود عن سمائي. تنفّستُ الصعداء. سأخبركم الآن قصّة طائر الفينيق. قصّة روتها لي جدّتي ذات شتاء بارد، تماماً كما روتها لها جدّتها من قبل. "كان يا ما كان في قديم الزمان، طائر جميل، ملَوّنٌ، مرفرفٌ، مغرِّدٌ، حالمٌ، طموحٌ، محِبٌّ، عاشقٌ، سعيدٌ. يغرّد فتغرّد معه الأشجار والأنهار، ويضحك فتضحك له السموات والبحار. وذات صباح مشؤوم، اندلعت نار من حقد وحسد، فأحرقته، حتى صار رماداً. لكنّ الرغبة في الحياة، أقوى من كلّ موت. إرادة الحياة أعادت طائر الفينيق، فانبعث من رماده، صفّق بجناحيه، ورجع يغرّد، ويعشق، ويَسعدُ ويُسعِدُ ويرفرفُ، ويحلّق، ويحلم..." هل عرفتم الآن لماذا سيبقى لبنان؟". * مديرة تحرير مجلة"لها"النسائية الصادرة عن"دار الحياة"