كشفت أجهزة الشرطة والأجهزة الأمنية البريطانية في وقت سابق من الشهر الجاري عن خطة مزعومة لتفجير عدد من الطائرات المدنية أثناء طيرانها عبر المحيط الأطلسي. ولو نجح تنفيذ تلك الخطة الفظيعة، فإن الآلاف من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، من مختلف الجنسيات والديانات، لكانوا قد قضوا نحبهم. وربما كانت تلك ستكون عملية قتل جماعي على درجة لم يسبق لها مثيل إطلاقاً. علينا أن نسأل أنفسنا ما الذي يحرض شخصا ما على تنفيذ مثل هذا العمل الإرهابي: الصعود على متن طائرة حاملاً معه متفجرات بهدف قتل نفسه والمئات من المواطنين المحيطين به؟ يحق لنا كل الحق أن نسأل ذلك السؤال. لكن من الضروري جدا ألا نقفز للتوصل الى استنتاجات عفوية ومحاولة إيجاد إجابات"سهلة". لقد سمعت مراراً وتكراراً خلال الأيام القليلة الماضية، وكذلك سمعت في مرات عديدة في الماضي، الادعاء القائل إن اللوم يقع على السياسة الخارجية البريطانية. حيث يقال - ومن الذين يقولون ذلك مسلمون بريطانيون عاديون، وقادة الجاليات المسلمة وكذلك أعضاء مسلمون في البرلمان - إن المعارضة لسياستنا الخارجية هي التي أدت بهؤلاء الأفراد المتآمرين للتخطيط للقيام بمثل هذه الهجمات البشعة. هذا ادعاء خطير للغاية، وهو ادعاء لا يمكنني أنا، كوزير في الحكومة البريطانية وكشخص يؤمن بالديموقراطية ومواطن في هذا البلد، أن أدعه يمر مرور الكرام دون مناقشته. اسمحوا لي أن أوضح أمرا بشكل جلي: أتقبّل تماماً أن هناك أبعاداً للسياسة الخارجية البريطانية مثيرة للجدل بشكل كبير. وهناك سياسات اتبعتها الحكومة الحالية، وكذلك الحكومات السابقة، وإجراءات اتخذتها أدت الى معارضة المواطنين لها معارضة عميقة. وأتلقى مئات الرسائل كل عام من مواطنين يعتقدون أن سياستنا تجاه عملية السلام في الشرق الأوسط تنطوي على تفضيل جانب على حساب الآخر. وقد سار مئات الآلاف من المواطنين في مظاهرات بشوارع لندن لمعارضة الحرب في العراق. كما قام أخيراً عدد كبير من المواطنين بالتظاهر ضد ما يعتقدون أنه كان تأخراً من جانب بريطانيا في الدعوة لوقف إطلاق النار في لبنان. كل تلك قناعات مشروعة يتم التعبير عنها بطرق مشروعة، وهذه القناعات تستحق اهتمام وردّ أولئك المنتخبين من بيننا لحكم هذا البلد. هذا هو ما تعنيه الديموقراطية، وإيماننا بالديموقراطية ورفضنا للقمع يمثلان أساس تشكيل سياستنا الخارجية في السنوات الأخيرة. اسمحوا لي أن أتناول على سبيل المثال الصراع في الشرق الأوسط، حيث بريطانيا ملتزمة بالتوصل الى حل يقوم على وجود دولتين، دولة فلسطينية تنعم بالأمن والازدهار تعيش إلى جانب دولة إسرائيل. وهذا يمثل أحد أهم الأولويات الأساسية في سياستنا الخارجية. وقد استثمرنا الكثير من الجهود الديبلوماسية للدفاع بكل شدة وحيادية عما نؤمن بكل حق بأنه السبيل الحقيقي الوحيد لإحلال السلام. لا تتوانى بريطانيا أبدا عن إدانة قتل المدنيين، على كلا الجانبين، سواء كان ذلك عن طريق التفجيرات الانتحارية في تل أبيب أم كان ذلك بسبب العمل العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة أو لبنان. وسوف نستمر دائما بإدانتنا لمثل هذا العنف المأسوي الذي لا طائل منه. لقد شاهدنا بكل ارتياع أعمال العنف التي سادت طوال الأسابيع القليلة الماضية، والتي تسببت بمعاناة فظيعة في كل من إسرائيل ولبنان. وقد شهدْت بنفسي تأثير عمليات العنف هذه خلال زيارتي التي قمت بها أخيراً إلى بيروت وحيفا. وبقيت الحكومة البريطانية على قناعة تامة طوال تلك الأزمة بأن شعبَي كلا البلدين، وكذلك شعوب المنطقة، لن يشهدوا السلام الحقيقي ما لم يتم التوصل الى حل دائم، وليس فقط عبر إيقاف العمليات القتالية. ولهذا السبب ضغطنا، وبكل شدة، للتوصل لوقف لإطلاق النار يؤدي الى قيام سلام مجدٍ ودائم. وآمل أن يكون ذلك هو ما يوفره قرار مجلس الأمن رقم 1701. ما زال هناك العديد من القضايا الصعبة والمؤلمة التي يتعين تسويتها، أهمها قضية مزارع شبعا ومسألة إعادة السجناء. يتعين على جميع الأطراف الآن بذل جهود مشتركة لتسوية هذه القضايا عبر المفاوضات. وفيما هو أبعد من قضية لبنان، هناك حاجة لبذل جهود دولية صادقة لإعادة إحياء خريطة الطريق والعمل باتجاه التوصل الى تسوية سلمية على المدى البعيد للقضية الإسرائيلية - الفلسطينية. واذا كان شهر كامل من القتال قد أثبت شيئا، فإنه أثبت أن مثل هذه القضايا لا يمكن التوصل لتسويتها عبر أعمال العنف، بل يمكن تسويتها فقط عبر الحوار والحلول التي يتم التوصل إليها عن طريق المفاوضات وبدعم من المجتمع الدولي. فالعنف لا يؤدي سوى الى خلق بيئة ترعى نمو الجماعات المقاتلة والمتطرفين. والأمر ذاته ينطبق على العراق. أحترم بكل شدة الحساسيات العميقة والمعارضة الوجدانية التي أثارتها الحرب في العراق. لكنني ما زلت أعتقد، وبشعور مماثل عميق، أن ذلك كان الإجراء الصحيح الذي تم اتخاذه. فلدينا الآن ولأول مرة حكومة عراقية منتخبة ديموقراطيا تمثل بحق جميع فئات المجتمع العراقي. وتحقق القوات البريطانية النجاح في تسليم السيطرة الأمنية للقوات العراقية في أجزاء من جنوبالعراق. ولدى العراق الإمكانات الكامنة لأن ينهض ليصبح بلدا عظيما. لكن، وبكل أسى، فإن جهود إعادة إعمار العراق وإعادة إحيائه تهددها الجماعات الإرهابية العازمة على إعادة العراق خطوات كبيرة إلى الوراء، والمضي في طريق العنف الطائفي الأخرق. المتطرفون لا يقدمون أي حلول حقيقية لشعب العراق، تماما مثلما أنهم لا يقدمون حلولاً حقيقية للشعب الفلسطيني. ويستغل الإرهابيون في كل مكان القلق والمخاوف المشروعة لعامة الناس ويُحرِّفونها من أجل أغراضهم الخاصة. إن نبوءتهم هي نبوءة يحاولون إثباتها، وهي تصور العالم من خلال منظور مشوَّه يقول إن هناك صداماً أساسياً بين حضارات غير متكافئة. ولا تؤدي مثل هذه النبوءة سوى إلى اذكاء دائرة عنف تعلق في شراكها المنطقة بأسرها، بل العالم بأسره في نهاية المطاف. وعندما يُعلِن أشخاص من أمثال أيمن الظواهري بفخر عن ضلوع تنظيم"القاعدة"في التفجيرات في العراق فإنهم بذلك لا يتكلمون باسم غالبية المسلمين. فهم لا يقتلون فقط أولئك المسلمين الذين تَطَالهم الهجمات فحسب، ولكنهم يُسيئون أيضا لسمعة المسلمين في كل مكان. أعلم أن الإسلام دينٌ مسالم ينطوي على حس أخلاقي عميق، وأن الغالبية العظمى من المسلمين تشعر بالاشمئزاز لأن مثل هذه الأعمال البشعة ترتكب باسم العقيدة التي تعتنقها باعتزاز. وكما فهمت فإن إمام الأزهر الشيخ محمد سيد طنطاوي كان لسان حال أغلبية المسلمين عندما قال"إن الإرهاب آفة وأن الإسلام ينهى عن قتل الأبرياء من المدنيين". وبالمثل، فإنني أتفق مع التأكيد الوارد في الخطاب الذي أرسلته شخصيات مسلمة قيادية الى رئيس الوزراء أنه يتوجب علينا فعل المزيد من أجل منع"كل من يستهدف المدنيين"، ومن هنا أعود إلى نقطة البدء في حديثي. إن أروع ما في الديموقراطية البريطانية هي أنها تشجع التحاور حول القضايا الجدلية كما أن هذا الحوار يزدهر ويثمر. والأهمية الحيوية هنا هي أن أولئك الذين يختلفون مع سياستنا الخارجية لديهم الحق ولديهم الفرصة لأن يُسمَع رأيهم وأن يلقى الاحترام. فلهؤلاء مطلق الحرية في أن يعبّروا عن وجهات نظرهم، ولهم مطلق الحرية في نشرها، كما أنهم أحرار في أن يحتجوا علنا أو أن يشكلوا أو أن ينضموا إلى أحزاب سياسية: وكل هذه حقوق بعيدة كل البعد عما هو شائع لدى الكثيرين حول العالم. والأهم من ذلك كله هو أن لمواطني هذا البلد الحق في اختيار حكومتهم عند كل انتخابات عامة. ومن غير الممكن أن يكون هنالك أسلوب أفضل أو أكثر عدالة أو أكثر فعالية في التعبير عن المعارضة لسياسة الحكومة من هذا النظام. ومن هنا ينبثق إيماني وشغفي العميق بالديموقراطية. فليس من الممكن إملاء السياسات وفرضها عن طريق الخوف في ظل الديموقراطية كما أنه ليس من الممكن إخضاع عملية صنع القرار السياسي لمطالب المجرمين والإرهابيين. فإن اعتقد أولئك الذين يناصرون العنف - سواء هنا أم في الشرق الأوسط - أن الأساليب التي يتبعونها يمكنها أن تغير السياسات، تصبح لهم اليد العليا. ولو حدث ذلك فانه سيؤدي الى تكرار لجوئهم الى هذه الأساليب، محاولين بذلك فرض إرادتهم على الأغلبية. ومن ثم يكون خطأ فادحاً إن قلنا، كما يعتقد البعض، أننا إذا أردنا منع الهجمات الإرهابية في هذه البلاد فيتحتم علينا أن نغير سياستنا الخارجية. إن مثل هذا الجدل ينطوي على التضليل والضعف والخطورة. إن حكومة منتخبة بصفة ديمقراطية هي التي تقرر سياستنا الخارجية وتنفذها، ولا يمكن أن تتغير هذه السياسة على أيدي أقلية غير قادرة على التخاطب بلغة أكثر حضارية من لغة التفجيرات والقتل. فإن استسلمنا للإرهابيين وفعلنا ما يرغبون به فإنهم لن يرحلوا عنا. بل إنهم سيعودون وهم أكثر قوة من ذي قبل. وعندئذ سيواجه كل رجل وامرأة وطفل في هذا البلد، وأياً كانت عقائدهم، مستقبلاً قاتماً. وعندئذ نكون قد اقترفنا ظلما عظيما في حق أولئك الذين يعبّرون عن آرائهم بصراحة من خلال القنوات الديموقراطية. إن عددا كبيرا من مسلمي بريطانيا الذين يبلغ عددهم مليوني مسلم منخرطون بنشاط في مجتمعنا المدني. ففي بريطانيا اليوم وصل عدد الأعضاء المسلمين في البرلمان ومجلس اللوردات إلى عدد لم نشهده من قبل وسيزداد عددهم بمرور الوقت. كما أن لدينا برامج تساعد الأفراد من كل الجاليات التي يتألف منها مجتمعنا على الانخراط في العملية الديموقراطية. كما أنهم يعلمون أن الجاليات المسلمة جزء حيوي من مجتمعنا وأن صوتها لا بد أن يُسمَع. ولذلك كان التحاور مع الجاليات المختلفة، ومع المواطنين في كل مكان، جزءا من استجابة بريطانيا للتحديات التي تواجهنا، وذلك بهدف التشجيع على بناء الثقة والتفاهم المتبادلين ومواجهة التحديات المشتركة معاً. إن هذه هي الملامح الصحية والديناميكية والحيوية للديموقراطية الناجحة. إنها ديموقراطية تشجع الحوار والفكر الحر ولا تقمعهما، هي ديموقراطية تثمّن تعددية الأفكار والمعتقدات ولا تهددها، هي ديموقراطية ترحب بالتغيير والتقدم ولا تعارضهما. وهذه هي الأسباب التي تدفع الإرهابيين إلى نبذ الديموقراطية لصالح العنف. وهذه هي الأسباب نفسها التي تحتم على من يؤمنون بالديموقراطية من أمثالنا أن يصروا على رفضنا أساليب الإرهابيين ورفض ما ينادون به. إن الغالبية الساحقة من الناس في كل مكان ترى أن دعوات الارهابيين لا يمكن تبريرها كما انها خاطئة وغير أخلاقية. * وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية المسؤول عن قضايا الشرق الأوسط