في 1997 ساهمت في مؤتمر عقد في نيودلهي لتأسيس"المنبر العالمي للديموقراطية". كان اختيار نيودلهي مكانا لعقد المؤتمرموفقا لعدة أسباب. فالهند التي تضم سدس سكان الكرة الأرضية أكبر ديموقراطية في العالم وتجربتها الديموقراطية المستقرة منذ نهاية أربعينات القرن الماضي تفنّد خرافة ينادي بها بعض أنصار وخصوم الديموقراطية تزعم أن الأخيرة بنت الحضارة المسيحية أو الأوروبية الأثينية، لا تستقيم إلا بالترابط معهما. ولعل أهم ما في المؤتمر الذي تحول إلى كرنفال سياسي فيما بعد المحاضرة التي افتتح بها أمارتيا سن، حامل جائزة نوبل للإقتصاد، أعماله وكان عنوانها"الديموقراطية كقيمة كونية"، وفيها يبرز سن مساهمة الحضارات المختلفة في نشوء فكرة الديموقراطية وسيرورتها وينتقد بشدة الأفكار التي تدعو إلى تأجيلها إلى ما بعد مرحلة إشباع البطون. جاءت محاضرة سن أشبه برد، غير مقصود، على ماسبقها. فلإضفاء هالة من الأهمية على الفعالية، حرص المنظمون على حشد أكبر عدد من رسائل التحية من رؤساء دول العالم غربا وشرقا، وكلها قُرئت بالنيابة بالطبع، حتى جاء دور رسالة الرئيس الأميركي بيل كلنتون، الذي كان لابد وأن يميز رسالته بأن ظهر علينا على شاشة فيديو كبيرة يقرأ رسالته. لم يكن كل هذا مهما، ولا الجو الطقوسي المفتعل الذي يذكّر بمؤتمرات الحزب الشيوعي السوفياتي. الأمر المميز، أن الرئيس الأميركي لم يكتف بتحية المؤتمرين، أو الحديث عن الديموقراطية، بل شكرنا على التزامنا بالديموقراطية ودفاعنا عنها! تذكّرت ماسبق وأنا أتابع تصريحات كوندوليزا رايس عن ولادة الشرق الأوسط الجديد من بين جثث الأطفال والمدنيين اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين، وتساءلت: أيدركون في تبشيرهم بالديموقراطية، أية إساءة كبرى يلحقون بها؟ أن يشكر الرئيس الأميركي الديموقراطيين يعني أنهم قدموا له خدمة وانه يعترف لهم بهذا الجميل، ناقضا بذلك صراعات إنسانية مديدة من بشر قد لا يعرفون مايجري في أميركا، من أجل تحسين شروط حياتهم واستعادة كراماتهم المهدورة، ليحيل ذلك كله إلى بشر مشكورين لشرائهم وتسويقهم سلعة أميركية اسمها الديموقراطية. وما صورة الديموقراطية والحداثة إذا اقترنت في أذهان الناس العاديين بكل هذا الدم المراق والخراب والدمار؟ ليس مطلوبا تزوير التاريخ والوقائع بالإدعاء بأن ولادة النظم السياسية الجديدة، ومنها النظم الديموقراطية، تمت وتتم من دون صراعات كانت دموية في معظم الأحيان. ولكن شتّان بين صورة الجماهير التي نزلت إلى الشوارع لتسقط طاغية مثل تشاوتشيسكو في عملية دموية وبين أطفال قتلى تلوّح كوندوليزا رايس بأنهم ثمن الديموقراطية التي لم يختاروها. منطقان متشابهان: منطق أميركي يقول بقبول الدمار لأنه ثمن ما نريد تحقيقه لكم، ومنطق السيد نصرالله الذي يدعو اللبنانيين إلى الترحيب بالدمار لأنه يحقق ما يريده لهم. وفي كلتا الحالتين لا أحد يستشير اللبنانيين أو الفلسطينيين أو العراقيين في ما يختارون أو يريدون. لا تخفي الإدارة الأميركية أن اندفاعها المحموم لإشاعة ما تعتقد أنه ديموقراطية في الشرق الأوسط لا يعود إلى اهتمامها بتطلعات الشعوب، بل إلى ان النظم الديموقراطية تقضي على الأسس المولدة للإرهاب الذي يهدد الأمن القومي لأميركا والغرب. إن صحت هذه الفكرة، ولا يبدو أن نمو خلايا الإرهاب في بريطانيا وأندونيسيا تدعمها بالكامل، فسنعود إلى السؤال القديم الجديد والسقيم عن تصدير الثورة وتصدير الديموقراطية قبل أن تتوافر شروطها المحلية في مجتمع ما. إذ غالبا ما يتكىء أنصار الدقرطة الفورية على أن عصر العولمة والإعلام الكوني السريع يضع الصورة والخبر وإنجازات الشعوب في متناول الفرد الأفغاني والأميركي في وقت واحد، جاعلا من العالم، على حد تعبيرهم، قرية صغيرة موحدة. لكن ما يغفل عنه القائلون بذلك أن توحيد العالم لا يعادل البتة التكافؤ في الوصول إلى مصادر المعلومات بل تشابه دلالة المعلومة لدى المتلقين من خلفيات قومية وحضارية واجتماعية متباينة. أسامة بن لادن وجورج بوش وملايين الناس كانوا يعرفون مركز التجارة العالمي في نيويورك بفضل التواصل الإعلامي، لكن هذا المركز كان يمثل رمز امبراطورية الشر لدى الأول ورمز الرخاء والقوة الأميركية لدى الثاني، ومعلما سياحيا لدى آخرين ومصدر عيش لعشرات ألوف الموظفين والعمال هناك. لعل تسارع الضخ الإعلامي وانتشاره الكوني معلمان للعولمة، لكن هذا يشي بمخاطر تحملها العولمة إذ يطّلع الناس على الفجوات الهائلة في مستويات الرفاه التي تفصل بين الشعوب مثيرةً نزعات الإنتقام ممن يتمتعون بما لا يتاح لغيرهم. وإن كان التسارع في الضخ الإعلامي من مظاهر العولمة، فإن الضخ الإعلامي واستقباله المتفاوت، بل المتناقض، ليس ابن العصر الحديث. منذ نهاية الحرب الثانية كانت إذاعات أوروبا الحرة وصوت أميركا مكرسة لتأليب شعوب بلدان الكتلة السوفياتية والبلدان التي اتخذت أنظمتها مواقف معادية للولايات المتحدة ضد أنظمتها الشمولية والحديث عن محاسن الديموقراطية والحرية التي يتمتع بها الغربيون. كانت الدعايات الفجة لصوت أميركا منذ الأربعينات حتى السبعينات واحدة في الجوهر. فلماذا لم تكن تلك الدعايات مؤثرة جماهيريا خلال الخمسينات والستينات، في حين أخذت مفردات الديموقراطية وحقوق الإنسان تنتشر على الألسنة منذ نهاية السبعينات على الأقل؟ لا يكمن الجواب في تغير الدعاية، أو في عدم معرفة البشر بالقيم المبشّر بها، بل في أن موجة التفاؤل التي صاحبت نهوض التحرر الوطني والتطور الإقتصادي للبلدان الإشتراكية خلال الخمسينات كانت توحي بأن العدو يحاول القضاء على النجاحات المتحققة باستخدام شعارات تخديرية كالديموقراطية. حين انقضت موجة التفاؤل، لم يكن الخيار الديموقراطي هو البديل التلقائي الذي تصدّر العمل للتغيير الإجتماعي والسياسي في منطقتنا، كما بات واضحا، بل البديل الذي يعد الناس بالعودة إلى ماض مجيد متخيل. ولم تكن الوسائل المفضلة المطروحة لتحقيق هذا التغيير تكمن في الحركات الجماهيرية السلمية بل اللجوء إلى السلاح. هكذا انتقلنا من هيمنة حركات"علمانية"شبه معسكرة، بل شبه فاشية، إلى حركات لا ترى العلة في الوسائل الفاشية بل في العلمانية. بدهي أن فكرة الشرعية"النابعة من فوهة البندقية"ليست أو بتعبير أدق، لم تكن حكرا على منطقتنا، بل لم تبدأ عندنا. فالشعار الذي صاغه ماو تسي تونغ اكتسح العالم في الستينات. لكن ما تجاوزه العالم بعد عقدين من الزمن على أكثر تقدير، ظل معشعشا في مجتمعاتنا. الرئيس البرازيلي سيلفيو دي لولا يشرح الأمر في مقابلة مع صحيفة"الفايننشيال تايمز"اللندنية:"منذ 1990، شرعنا بتعزيز فكرة أن الديموقراطية أفضل سبيل أمام القطاعات المبعدة اجتماعيا عن السياسة لكسب السلطة، بعد أن كانت مختلف مجموعات اليسار ترى الكفاح المسلح الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السلطة". ليت السيدة رايس تتعلم درساً.