في مقالة سابقة "الحياة"2006-06-25 حول"رؤية واشنطن"في النمو الاقتصادي، ذكرنا أن البنك الدولي أعد دراسة في عام 2005 بعنوان"النمو الاقتصادي في التسعينات: تعلم من عقد من الإصلاح"، رسالتها الرئيسة عدم وجود حزمة كونية فريدة من القوانين يمكن أن تتبناها البلدان النامية في سعيها إلى تحقيق النمو المستدام. وفي ضوء ذلك، فإن"رؤية واشنطن"التي التصقت باسم الاقتصادي جون وليمسون منذ تسعينات القرن العشرين، التي اعتبرها عاملون كثر في التنمية والإصلاح الاقتصادي عموماً، واقتصاديو البنك وصندوق النقد الدوليين خصوصاً، توليفة من السياسات والإجراءات الضرورية لإصلاح وتنمية البلدان النامية، حان الوقت للتخلي عنها واستبدالها بتوليفة جديدة من السياسات والإجراءات حصل التوافق عليها من جانب 16 اقتصادياً مرموقاً اجتمعوا في برشلونه في إسبانيا في ايلول سبتمبر 2004، واصدروا وثيقة"رؤية برشلونة". ومن بين الموقعين عليها الاقتصاديون جون وليمسون وجفري ساكس وجوزيف ستغلتز وبول كروغمان وداني رودرك. استعرض المجتمعون في برشلونه وناقشوا ثلاث مسائل مترابطة هي: آثار الإصلاحات الاقتصادية التي نفذتها بلدان نامية عدة خلال العقدين السابقين، الدروس المستخلصة من هذه الخبرة لتوليفة السياسة الاقتصادية، وأداء النظام الاقتصادي الدولي الذي تتكامل معه الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل بوتائر متزايدة. وفي ضوء ذلك، حدد المجتمعون ثلاثة اتجاهات مشجعة، وثلاثة أسباب مقلقة، وسبعة دروس تمثل أولويات للإصلاح، نتناول كلاً منها بشيء من التفصيل. الاتجاهات المشجعة - المكاسب التي تحققت في مجالات حقوق الإنسان والديموقراطية وحكم القانون في كثير من البلدان النامية. - انطلاق النمو في كثير من البلدان بما في ذلك الصين والهند، الذي يمكن أن ينتشل عشرات الملايين من الفقر. - الاعتراف المتزايد بأهمية الاستقرار الاقتصادي الكلي، الذي أدى إلى تخفيضات هائلة في نسب التضخم في بلدان أميركا الجنوبية. الأسباب المقلقة - تكرار وحدة الأزمات المالية النظامية في البلدان النامية ومن بينها بعض البلدان التي تبنت سياسات استقرارية وتصحيحية بناء على إرشادات دولية. - سجل عادي لبرامج الإصلاح في تأمين نمو اقتصادي مستدام في كثير من مناطق العالم. - استمرار، وغالباً تردي، التوزيع غير العادل كثيراً للثروة والدخل في بلدان عدة. دروس التجارب وأولويات الإصلاح - يشير التفكير الاقتصادي والتجربة الدولية الى أن نوعية المؤسسات، مثل احترام حكم القانون وحقوق الملكية، والتوجه نحو اقتصاد السوق مع تقسيم متناغم بين السوق والدولة والاهتمام بتوزيع الدخل، هي جذور إستراتيجيات التنمية الناجحة. إضافة الى ذلك، فإن المؤسسات التي تحول هذه المبادئ المطلقة إلى واقع ملموس، مهمة، وعلى البلدان النامية أن تعمل بجد على تحسين البيئات المؤسسية. ولكن الابتكارات المؤسسية الفاعلة تعتمد في شكل كبير على تاريخ البلد وثقافته وأحواله الخاصة الأخرى. لذا، فإن تشجيع البلدان النامية على نقل آلي لمؤسسات البلدان الثرية، كما تفعل المؤسسات المالية الدولية، لا ضمانة له بتحقيق نتائج بل يمكن أن يضر أكثر مما ينفع. - بينت التجارب مرة تلو المرة أن الديون الكبيرة، العامة والخاصة، والمصارف الرديئة الانضباط والتنظيم، والسياسات النقدية التوسعية هي معوقات خطيرة على التنمية. هذه الممارسات، إضافة إلى فشلها في تحفيز النمو في المدى المتوسط، تعرّض الدول إلى أزمات المديونية والمالية التي تنجم عنها تكاليف مرتفعة خصوصاً بالنسبة الى الفقراء. لذا فعلى البلدان النامية التي تأمل أن تتقدم وتنجح، ان تتبنى سياسات تمويلية ونقدية ومالية ومديونية حذرة. فسياسات الاقتصاد الكلي المعاكسة للدورة الاقتصادية هي أكفأ وأيضاً أكثر استدامة سياسياً في نهاية المطاف. وعلى البلدان النامية أن تنشئ مؤسسات لجعل السياسات المعاكسة للدورات الاقتصادية عملية. وعلى المؤسسات الدولية المقرضة تشجيع مثل هذه السياسات حيثما أمكن. ويجب أن تتضمن الإطارات الاقتصادية الكلية المحاسبية التي تستخدمها المؤسسات الدولية هذه المرونة الضمنية الضرورية، كاعتبار نفقات البنية التحتية والبحث والتطوير مشتريات أصول وليست نفقات جارية، لهدف محدد للموازنة. - لا توجد حزمة سياسات واحدة يمكن ضمانها لإطلاق النمو المستدام. فالدول التي نجحت في هذا العمل البالغ الأهمية، واجهت حزمات مختلفة من المعوقات وتبنت سياسات متنوعة بالنسبة الى التنظيم والتصدير والترويج الصناعي والاختراعات التكنولوجية وامتلاك المعرفة. لذلك يجب ان تكون الدول حرة في تجريب سياسات ملائمة لأوضاعها الخاصة، وعلى المؤسسات الدولية المقرضة ووكالات المساعدات أن تشجع مثل هذه التجارب. لكن حرية التجريب يجب ألا تعني"أي شيء مقبول"أسلوباً للتنمية، ولا أن تستخدم هذه الحرية لإخفاء السياسات التي فقط تحوّل الدخل إلى المجموعات المتنفذة سياسياً. الأولوية في هذا الشأن هي لتحديد القيود الأكثر شدة وإعاقة للنمو والعمل على معالجتها من خلال سياسات اقتصادية جزئية وكلية. ويجب أن تكون التدخلات على المستوى الجزئي موجهة لإصلاح فشل سوق محددة وأن تكون الحوافز مرهونة بتحسين أداء المستفيدين. - يجب أن تجري مفاوضات التجارة المتعددة الأطراف بصيغة تدعم التنمية. فحماية الزراعة والأنسجة والملابس في البلدان المتقدمة تجسد معوقاً مهماً لمساهمة البلدان النامية في الاقتصاد العالمي. ولكن يمكن أن تحد بعض البلدان النامية من نموها الكامن بتبنيها سياسات تجارية غير مناسبة."رؤية برشلونة"تشجع نهاية ناجحة لجولة مفاوضات الدوحة التي ستوفر فرصاً أكثر للنمو العالمي، وبذلك توفر فضاء أوسع للبلدان النامية لمتابعة إستراتيجياتها الإنمائية. - الترتيبات المالية الدولية لا تعمل في شكل جيد. فالبلدان الفقيرة لا تتلقى رأسمالاً خاصاً ومستوى المساعدات الرسمية غير كاف، وتدفقات رأس المال إلى البلدان المتوسطة الدخل مرتفعة التقلبات. وهذه التقلبات ليس لها علاقة بالأساسيات الاقتصادية في هذه البلدان. وصدمات حساب رأس المال المنتظمة ما زالت شائعة والعدوى تضرب بلداناً تعتبر سياساتها سليمة. وأساس المشكلة هو غياب الأسواق والأدوات التي تسمح بتقاسم المخاطر بكفاءة أعلى بين البلدان. والمؤسسات المالية الدولية المقرضة لا تعمل على التغلب على فشل أسواق المال الخاصة. وأدى التركيز على"المخاطر المعنوية"باعتبارها المسبب للأزمات، إلى حجب النظر عن أسباب أخرى للأزمات المالية. والحديث عن إصلاح النظام المالي الدولي أدى إلى نتائج ملموسة قليلة. ويعزى السبب إلى نقص تمثيل وجهة نظر البلدان النامية في صنع القرارات في المؤسسات المتعددة الأطراف. فتوزيع القوة التصويتية في هذه المؤسسات ما زال يعكس علاقات القوة في الماضي وليس له علاقة بأهمية البلدان في الاقتصاد العالمي في الوقت الحاضر. - الترتيبات الدولية الحالية تعامل تدفقات رأس المال وتحركات العمالة بصيغ غير متماثلة. فالمؤسسات الدولية وبلدان مجموعة السبع يشجعان على تدفق رأس المال باعتباره شيئاً مرغوباً، وهو ما لا ينطبق على حركة العمل الدولية. وهناك حاجة الى قوانين ومؤسسات دولية ترعى انتقال اليد العاملة بين البلدان وتحسين حقوق العمال المهاجرين لتسهيل تكاملهم في أسواق العمل والحد من استغلالهم. - ان تردي البيئة بما في ذلك مشاكل ارتفاع الحرارة بحاجة إلى معالجة بسياسات إنمائية مستدامة على المستويين الوطني والدولي. وهذا مجال عمل للبلدان الفقيرة والثرية. هذا ما جاء في"رؤية برشلونه"، وهي صدرت قبل دراسة البنك الدولي"النمو الاقتصادي في التسعينات: تعلم من عقد من الإصلاح"التي نشرت في النصف الثاني من 2005. لذلك، فإن رؤية برشلونه تتقاطع مع ما جاء في دراسة البنك الدولي عموماً، وخصوصاً بالنسبة الى التشديد على أنه لا توجد حزمة واحدة من السياسات والإجراءات التي يمكن أن تطبقها البلدان المختلفة لتحقيق النمو والتنمية، بل هناك خصوصيات للبلدان لا بد من أخذها في الاعتبار عند مساعدة الدول في وضع برامج إصلاح اقتصاداتها. من هنا كان التركيز في وثيقة صندوق النقد الدولي"إستراتيجية متوسطة الأجل لصندوق النقد الدولي: مواجهة تحدي العولمة"، التي استغرق البحث والنقاش والمداولات في إعدادها نحو سنتين، على تحليل عميق للسياسات الإرشادية التي تقدم للدول طالبة المعونة والدعم من الصندوق، وتقوية التحليل في الإصدارين"آفاق الاقتصاد العالمي"وپ"تقرير الاستقرار المالي العالمي". آمل أن يطّلع القائمون على إدارات المؤسسات المالية الإقليمية العربية على هذه الوثاق، وأن ينظروا في كيفية الاستفادة منها في وضع إستراتيجيات عمل تخدم البلدان العربية في جهودها الإصلاحية والإنمائية. وقد يرى محافظو هذه المؤسسات العربية تكوين فرق عمل من خارج العاملين في هذه المؤسسات لتقويم الإنجازات وتحديد المعوقات ووضع السياسات والإستراتيجيات لانطلاقة جديدة تدفع الاقتصاد العربي إلى اقتناص فرص العولمة وتجنب مخالبها. * مستشار اقتصادي في"المركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط"