روبرت فيسك مراسل صحيفة"Independent"البريطانية في الشرق الأوسط، يستقر في بيروت، ومنها ينطلق نحو فلسطين والعراق والكويت وإيران... وصولاً الى أفغانستان. بعد كتابه"ويلات وطن"الذي اعتبره القراء الأكثر مكاشفة وجرأة في مقاربة الموضوعات الشائكة، تصدر بعد ايام في بيروت الترجمة العربية لكتابه الجديد"الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة". لمناسبة صدور الكتاب الجديد التقت"الحياة"روبرت فيسك الذي قال:"حين شرعتُ في تأليف كتابي هذا، كنت أظن أنني سأخوض في موضوع العجز عن تخطّي التاريخ والهرب منه، على قاعدة أن كل ما نعانيه وما سوف نعانيه إنما هو نتاج ما قام به أهلنا وأسلافنا. لم أكن قد ولدت بعد، زمن وعد بلفور ولا يوم عقدت معاهدة سايكس بيكو، لكنني أعيش وفي كل لحظة من حياتي نتاجهما. نحن الأوروبيين والأميركيين نعتقد أن بوسعنا أن نصفق الباب خلف التاريخ ونجاوزه. ففي نهاية الحرب العالمية الثانية، مات أدولف هتلر وكذلك موسوليني فأنشأنا الأممالمتحدة ثم الاتحاد الأوروبي. ذاً نحن لا نكفّ عن صفق الأبواب ونستمرّ نتغاضى عن التاريخ ونجاوزه. نحن في هذا على النقيض تماماً من الشرق أوسطيين. أعرف صديقاً فلسطينياً نجا من مجزرة صبرا وشاتيلا وتمكّن بأعجوبة من البقاء على قيد الحياة. وحين استيقظ في صباح اليوم التالي ليجد نفسه وسط ركام الدم والدمار والموت الذي خلّفته المجزرة، سقطت في نظره كل الفواصل الزمنية وظنّ أن وعد بلفور حدث في الليلة الماضية. ويصف كتابه بأنه"شهادات حية، هو تمثيل لكل ما رأيته بأم العين على مدار الأعوام الثلاثين المنصرمة. إنه كتاب عن إسرائيل وفلسطين، وبعضه تضمّن مراسلات جرت بيني وبين شاب فلسطيني حاول أن يقنع صديقته الحامل بوضع قنبلة على متن طائرة. وقد أطلقت على هذا الفصل، وهو الخامس في الكتاب، عنوان"الفتاة والطفل والحب". في فصل آخر، أتيت على ذكر حنان عشراوي وياسر عرفات حيث تبرز الصورة السيئة لهذا الأخير على حقيقتها. كذلك شارون الذي أظهرته مجرمَ حرب لا يملي عليه أحد ما يفعله. حين أنهيت كتابي، أدركت أنه تمثيل تاريخي للتعذيب والمعاناة وللمجازر ولانعدام الحق والعدل. سألناه عن مصطلح"الحضارة"باعتباره مفردة ملتبسة في عنوان كتابه"الحرب الكبرى تحت ذريعة الحضارة"، حيث يمكن اعتبار الحضارة ذريعة تتلطّى بها الحرب الكبرى. أجاب: بصدق، لا أستخدم على الإطلاق مفردة"الحضارة"، واعتمادي هذا المصطلح في عنوان كتابي إنما أتى من باب السخرية فقط، والعنوان بجملته عبارة عن كلمات محفورة على ميدالية كانت لأبي، وهي إحدى ميداليات الشرف في الحرب العالمية الأولى. من هنا مصدر سخريتي. لا أؤمن بالحضارات مع التشديد على صيغة الجمع. يقول الإمام علي بن أبي طالب:"الناس صنفان: إما أخ لك في الدين و-ما نظير لك في الخلق". لقد أمضيت ثلاثين عاماً في العالم المسلم، والمسلمون جزء من بيروت. في الحقيقة، لا يستوقفني الاختلاف الديني شخصياً. أنا لا أفكر في ديانة الآخرين، فسائقي مثلاً ومدبرة منزلي وكل من يحيطون بي ينتمون الى طوائف مختلفة، هم سنة ودروز وشيعة و... أعرف ديانة كل منهم تماماً كما أعرف لون عيونهم، لكن ذلك لا يعني لي شيئاً. أنا خارج الديانات ولا أؤمن بالحضارات، والفكرة القائلة إن الصراع موجود دائماً حيث تتواجد الاختلافات الدينية أو التنوعات الدينية فكرة لا تقنعني في الأساس. هل شاهدت فيلم"Kingdom of Heaven"؟ إنه يتحدث عن الحملات الصليبية. لقد شاهدته في سينما Dunes في شارع فردان، وبالطبع كان الجمهور من غالبية مسلمة. حين توالت المشاهد الدموية المروعة للصليبيين بثيابهم المغطاة بدماء المسلمين، يتهيّأون لاغتصاب شقيقة صلاح الدين وقتلها، كنت أتلفّت حولي شمالاً ويميناً لأرصد ردود الأفعال، لكنني أدركت أن الجمهور يرى الى هذه المشاهد التي حصلت بالفعل باعتبارها مشاهد من تاريخ مضى. قرابة نهاية الفيلم، مرّ مشهد آخر ظهر فيه صلاح الدين وهو يطأ أرض القدس بعد سقوطها ويدخل كنيسة تعرّضت للقصف المدفعي فيرى تمثال المسيح المصلوب ملقياً الى الأرض، فيلتقطه ويعيده الى مكانه على المذبح. حينها، هبّ الجمهور من مكانه واقفاً وشرع بالتصفيق. لذا، من فضلك لا تحدثيني عن الحضارات. سألناه: في آذار مارس 2006، في مقابلة أجرتها معك World Today، توقّعت أزمة سياسية كبرى في الشرق الأوسط. الى أي مدى تقاطعت توقّعاتك هذه مع ما يحدث الآن في لبنان؟ أجاب: في العام 1993، أنجزت فيلماً للسينما بعنوان"من بيروت الى البوسنة"، عرض على شاشتي القناة الرابعة البريطانية وقناة Discovery في الولاياتالمتحدة، يتحدث عن الأسباب التي ستدفع بالمسلمين الى كراهية الغرب. وقد التقطنا مشاهد الفيلم في لبنان خصوصاً جنوبه، وفي غزة والضفة الغربية وفي إسرائيل ومصر والبوسنة وبولندا وكرواتيا. وفي العام ذاته، دخلت مسجداً تلتهمه النيران، في البوسنة كنا نصوّر المشهد. حينها، قلت في الخلفية الصوتية للفيلم إنني كلما رأيت بشاعة كهذه، يمثل أمامي مباشرة الشرق الأوسط حيث أعيش. ما قلته حينها وبدقة: أتساءل عمّا يحضّره العالم الإسلامي لنا، ربما عليّ إنهاء كل تقرير لي بعبارة: انتبهوا! وعثرت على شريط مصوّر آخر لمقابلة أجريتها مع تلفزيون CBC الكندي في تورونتو، حيث خلص محاوري الى القول: يبدو أن الأمور تتحسن في الشرق الأوسط، ولا سيما بعد معاهدات السلام التي عقدتها مع إسرائيل دول عربية من مثل الأردن ومصر. كان جوابي حينها: لا، ذلك ليس صحيحاً، فأنا أؤكد أن انفجاراً ما سيحصل وأنا على يقين من ذلك. في وسع من يعيش في الشرق الأوسط ولا سيما إن كان غربياً، أن يشتمّ الأحداث ويستبقها، وأعترف بأنني لا أتذكر بالضبط ما الذي دفعني الى قول ما قلته آنذاك، لكنني كنت بالطبع على حق، أليس كذلك؟ وحول ما يحدث في لبنان الآن قال: ما يحدث هو مثال فاقع آخر عن الانتهازية الغربية، التهكّم الأميركي، الوحشية الإسرائيلية وخيانة الغرب المستمرة للبنان. كما أنه مثال على سهولة استئثار جماعة واحدة في لبنان بالقرارات المصيرية من دون استشارة الآخرين. كذلك سهولة إقحام هؤلاء الآخرين في الدراما والفوضى والتشويش، وأقصد بذلك الشيعة وحزب الله، انطلاقاً مما فعله هذا الأخير حين تجاوز الخط الأزرق واختطف الجنديين الإسرائيليين. هذا القرار فيه الكثير من الاستخفاف على الصعيد السياسي، كما أنه يتّصف بالقسوة والتهوّر على الصعيد العسكري. فحزب الله كان يعلم بالتأكيد بما سيعقب ذلك، وقد توقّع ردّ الفعل المبالغ فيه من جانب إسرائيل. لقد بنى الحزب هجومه على أساس أن إسرائيل ستردّ بعنف مجحف وستسفك دماء اللبنانيين... وفي ذلك كان محقّاً. في هذا، ثمة ما يدعو الى السخرية على مستوى الطرفين. ومن المؤكد أن نظرية الحزب قامت على قاعدة أن إسرائيل ستردّ بوحشية تنسي العالم توجيه النقد الى حزب الله، وهو ما حصل اليوم. فالعالم اليوم لا يكفّ عن انتقاد إسرائيل، لا حزب الله. وما يثبت ذلك خطاب السنيورة، رئيس الحكومة اللبنانية، الذي لم يأت على ذكر حزب الله ولم يوجّه أي لوم الى السيد نصرالله، الأمين العام لحزب الله. ما يثير الانتباه حقاً أن جيفري فيلتمان، السفير الأميركي في لبنان، الذي أمضى العام الماضي يشيد بسلوك السنيورة ويعتبره ديموقراطياً للغاية، صرّح إثر خطاب السنيورة بأنه فصيح ومؤثر، وهذا في رأيي أكثر التصريحات التي سمعتها إثارةً للشفقة عن لسان سفير أميركي في وقت كهذا. ذلك أن فيلتمان أوقع نفسه في مأزق، فهو يصف الخطاب بأنه رائع، ما يضمّن بطريقة غير مباشرة انتقاداً لإسرائيل. لذا أعتقد أنه سيرسل الى منغوليا عما قريب ليستمتع بدوره كسفير لأميركا هناك. وفي ذلك أيضاً، عكس فيلتمان درجة عالية من الجبن لدى الولاياتالمتحدة، وخوف هذه الأخيرة من توجيه أي نقد لإسرائيل، في أي سياق كان، فضلاً عن انتفاء أي تعاطف مع اللبنانيين أو إظهار حدّ أدنى من الاحترام لهم. في فترة سابقة، كتبت أن اللبنانيين باتوا اليوم شديدي الشبه بالغربيين، فأنتم أي اللبنانيين تشبهوننا، تعيشون بيننا في لندن أو باريس، تنطقون بصورة ممتازة بالعربية والإنكليزية والفرنسية، كما أنكم الشعب الأكثر ثقافة في المنطقة. نحن نحترمكم ونسعى لأن نكون أصدقاءكم، نشارككم طعامكم، نجالسكم ونستمتع بصحبتكم، وثمة الكثير من الغربيين والغربيات الذين تزوّجوا من لبنان، إنما حين يتعلق الأمر بإسرائيل، سرعان ما نتخلّى عنكم ونخون ثقتكم، وهذا ما نفعله اليوم. كل هذه السفن والبوارج الغربية التي تحتشد اليوم في مياه البحر الأبيض المتوسط لم تأتِ لحمايتكم، بل لحماية رعاياها وهم في معظمهم لبنانيون بالطبع من حملة الجنسيتين. والمفارقة ما حصل عند وصول هذه السفن الى الشواطئ اللبنانية، حين بدأ مراسلو المحطات التلفزيونية يصطادون كل من لهم عيون زرقاء وشعر أشقر. علماً بأن ثمة تقصّداً متعمّداً من قبل الغرب للإيهام بأن عمليات الإجلاء تستهدف الأجانب أو المولودين في الغرب، فهم حتى حين أتوا لإنقاذكم، رفضوا إظهار ذلك إعلامياً على شاشات التلفزة. اللبنانيون هم الضحايا سألناه: هل يمكن اعتبار ما يحدث اليوم حرباً بين لبنان وإسرائيل، كما تحاول هذه الأخيرة إيهام العالم بذلك؟ أجاب: هي ليست كذلك، لكن الدولة اللبنانية عاجزة عن إيقاف حزب الله. لقد شهدنا ذلك من قبل. إنها حرب بين بلدين هما سورية وإسرائيل، واللبنانيون هم الضحايا كالعادة. وثمة علاقة مؤكدة بين اسر الجنديين الإسرائيليين والمخطط النووي الإيراني. أعتقد بأن حزب الله قد يكون خادماً لله لكنه قد يكون أيضاً خادماً لإيران. إنه يخدم سورية، لكن إيران هي مركز فعلي لحزب الله. حين أزور طهران، ألتقي دوماً أشخاصاً من حزب الله هناك. وعن رأيه في موقف بوش حيال العدوان على لبنان وإصراره على عدم وقف إطلاق النار، وموقف الأممالمتحدة ايضاً، يقول: إنه أمر مثير للشفقة الى أقصى الحدود. بوش يريد أن يجسّد القوة والسلطة لكنه على الأرض لا يعكس سوى الضعف السياسي. بوش لا يحارب حتى من أجل بلده. هو لم يفعل ذلك في حرب فيتنام، فلا يتوقع احد منه أن يساند بلداً كلبنان. لقد تحوّل هو وبلير الى بوق لمصالح إسرائيل وسياستها. جون بولتن، السفير الأميركي في الأممالمتحدة، تهاوى هو الآخر، وأعتقد أنه بات الآن في حاجة الى علاج طبي ضروري. كذب بولتن ونافق حين قال: كيف يمكن وقف إطلاق النار في لبنان الذي أجريت فيه الانتخابات بديموقراطية، في ظل وجود الإرهابيين. والدليل على نفاقه أن اتفاقاً لوقف إطلاق النار تم في العام 1990 وبرعاية الأممالمتحدة بين إسرائيل وحكومة ياسر عرفات الذي تعتبره إسرائيل إرهابياً، وقد نجح هذا الأمر واستمر لعامين. لكن إسرائيل ما لبثت أن خرقت هذا الاتفاق في العام 1992 بذريعة أن عرفات كان وراء اغتيال سفيرها في لندن، وهذا بالطبع لم يكن صحيحاً، فصدام حسين هو من كان وراء هذا الاغتيال. بولتن لا يعرف شيئاً عن تاريخ بلده، هو رجل منهار ومتهاوٍ، ويكفي أن تراقبيه لتدركي ذلك. حيث توجد أميركا ذكر فيسك في كتابه أن الولاياتالمتحدة وضعت مخططاً جغرافياً كاملاً للمنطقة. فما هو هذا المخطط وما هي حدوده؟ أجاب عن السؤال بسؤال آخر. بطريقة ما، أميركا موجودة، وعبر مواقع عسكرية مختلفة، في أفغانستان، كازاخستان، أوزباكستان، باكستان، الأردن، تركيا، مصر، إسرائيل، البحرين وغيرها، فماذا يفعلون هناك؟ وما الهدف من هذا التمركز المتلطي خلف ستار ما؟ يمكن البدء من غرينلاند وصولاً الى بريطانيا، ألمانيا، البوسنة، يوغوسلافيا، واليونان التي تتقاطع مع تركيا. إذاً من حدود الصومال صعوداً الى القطب الشمالي، ثمة تمركز أميركي مستتر، فما الهدف من ذلك؟ ألا تجدين في هذا جواباً عن السؤال؟ وهذه الحرب في لبنان اليوم؟ يقول: بمساعدة أميركية وفرنسية، تمّ في العام الماضي إذلال القوات السورية في لبنان وإخراجها من الأراضي اللبنانية، بناء على القرار 1559. هذ الأمر لم يعجب سورية باعتبار أنها تاريخياً، على ما تقول، الدولة العربية الأهم الأمة العربية الواحدة. والرئيس السوري الذي ارتضى أن يكون للبنانيين بلد ديموقراطي يتمتعون بالعيش فيه، أراد أن يلجأ الجميع الى دمشق متى فقد السيطرة على الأمور ليقول: أرجوك أيها الرئيس أن تتدخل لتمارس تأثيرك. فكل من يريد إيقاف حزب الله عليه المرور بسورية وبإيران، وقد يتم اللجوء أحياناً الى بيروت، علماً أن هذا اللجوء سيبقى غير مجدٍ بالتأكيد. هذا هو جزئياً مغزى هذه الحرب في نظري. أيعني هذا أن سورية وراء ما يحدث اليوم؟ يجيب: لم أقل حرفياً إن سورية وراء ما يحدث الآن. ثمة مئة سبب وراء ذلك، غير أنني أعتقد أن لها صلة وثيقة بما يحدث. أحد المشاكل الأساسية التي يعانيها لبنان كونه بلداً متعدد الطوائف بمعنى طائفية نظامه السياسي. وهذا ما يسهّل عملية استغلال عنصر الاختلاف في هذا المكان الطائفي، وهذا في المقابل ما يستحيل معه قيام لبنان نموذجي حديث. هذه هي المشكلة والآخرون يستغلون اللبنانيين. لماذا على سبيل المثال لا الحصر نقرأ على اللوحات الحجرية في نهر الكلب كل تلك العبارات حول الصليبيين والفينيقيين والفرنسيين... الذين مروا. لا حرب أهلية في لبنان لم تتوقع حرباً أهلية في العراق، فهل تتوقّع حرباً أهلية ثانية في لبنان، لا سيما أن ثمة الكثير مما يقال حول ذلك اليوم. في رأيك، هل سيضعف اللبنانيون مرة أخرى؟ يجيب:"كنت مخطئاً في شأن العراق على ما يبدو. أما في لبنان، فلا أعتقد أن ثمة مجالاً لحرب أهلية ما دام الجيش متماسكاً. قد تحاول إسرائيل تسليح بعض الأحزاب السياسية في لبنان. مع ذلك، أرى أن اللبنانيين قد نضجوا بعد حربهم الأهلية الطويلة الماضية. بعد اغتيال الرئيس الحريري، ويومذاك كنت على مسافة 400 متر من مكان الانفجار، اعتقدت للوهلة الأولى أن أشباح القوات المشتركة للحرب الأهلية اللبنانية ستعود الى الظهور من جديد. لكن الأيام مرت ولم يحصل ذلك. نجا لبنان من حرب أهلية أخرى. خلال الحرب اللبنانية، هاجر الشباب اللبناني الى الغرب. قصدوا جنيف وباريسولندن وتعلّموا في هارفرد وليون وعادوا بتفكير أكثر نضجاً وصرّحوا بأنهم لا يريدون حرب أهلهم مرة أخرى.