قد يكون الشاغل الأول الذي يعني الناظر الى الحرب المحتدمة في لبنان منذ الثاني عشر من الشهر الجاري تعيين المنظور الذي يندرج فيه العدوان الإسرائيلي الساحق على هذا البلد، رصد القوى والأطراف المتواجهة ومآل صراعها فيه، وتحديد الموقف المفترض بكتله السياسية وهيئاته الفاعلة القيام به لتأمين خلاصه، أو على الأقل الخروج من الحرب المشتعلة فيه بالحد الأدنى من الخسائر، وإن أمكن بالحد الأقصى من الانتصارات. - إن قيام اسرائيل، رداً على خطف حزب الله اثنين من جنودها مطالباً بمبادلتهما بأسرى لبنانيين في السجون الإسرائيلية، باعتداء مدمر شامل ومبرمج، منذ تاريخه وحتى اليوم، على المواطنين المدنيين في مناطق لبنانية واسعة، وعلى البنية التحتية من جسور وطرقات ومطارات ومرافئ ومعامل ومحطات إرسال وأبنية سكن وعمل... يجعل هذا الرد أقرب ما يكون الى حرب إبادة واسعة لأجزاء مهمة من لبنان. وإذ عملت اسرائيل على تقطيع اوصال بعض المناطق، خصوصاً في جنوبلبنان وضواحي بيروت، وعزلها وحصارها وقصفها جواً وبراً وبحراً، واعتماد قوة نارية ومدفعية وصاروخية عاتية لقتل ساكنيها وهدم منشآتها، فإنها كانت تتوخى في شكل بارز التحطيم المادي - العسكري والمعنوي - السياسي لحزب الله ومحيطه الشعبي والسياسي، ومن خلالهما تحطيم المقاومة العربية والإسلامية للكيان الصهيوني في لبنانوفلسطين. من المثير للسخرية ان تكلف اسرائيل نفسها مسؤولية تطبيق قرار مجلس الأمن، وهي الدولة الأكثر استهتاراً به وبمواثيق الأممالمتحدة، وليس عدوانها الجاري إلا دليلاً حياً ومشهوداً على ذلك، تحاول تمويهه بضده. إلا ان ما يجري تمويهه من جانبها لا تتردد الولاياتالمتحدة الأميركية عن فضحه والإفصاح الصريح عنه. فليس القضاء على حزب الله إلا جزءاً من سياسة اميركية عالمية ترمي الى القضاء على"الإرهاب"الذي يشكل الحزب مع حركة حماس في فلسطين والنظام الحاكم في كل من ايران وسورية... أبرز حلقاته، وواحداً من أبرز الشروط التي تسعى الولاياتالمتحدة الأميركية الى توفيرها لإقامة توازن قوى جديد، لا في لبنان وحسب بل في منطقة الشرق الأوسط برمتها، كما يتبين من الدعم المطلق والمتحمس لهذا العدوان، واغتباط وزيرة خارجيتها به لما يمثله برأيها من إطلاق لمشروع جديد في المنطقة وولادة شرق اوسط جديد. ربما كان هذا الدعم وراء التأييد شبه الشامل الذي حظي به العدوان المذكور على الصعيد العالمي، وذلك ليس فقط في التحاق أوروبا بالموقف الأميركي ولا في اتخاذ الدول الصناعية الكبرى الموقف نفسه وحسب، وإنما ايضاً وخصوصاً في تغييب مجلس الأمن عن الموضوع، وإبقاء اسرائيل طليقة فيه من دون أي رادع. لقد جاء اجتماع مجلس الأمن، اليتيم حتى اليوم والعقيم غداة اجتماع له بصدد موضوع مماثل يتناول ممارسات اسرائيل البربرية في غزة، اطاح الفيتو الأميركي فيه بقرار معتدل بشأنه، فبدا هذا الاجتماع تمريناً سبق مباشرة الممارسة الحاصلة في الاجتماع اللاحق وقد حفظ الممثلون ادوارهم، بل أتقنوها حد الاستقالة. - ما يرجح من خلال متابعة ما يجري في العراق منذ الاحتلال الأميركي له ان الاستراتيجية الأميركية فيه ماضية نحو تفتيته الى ثلاث دويلات طائفية وعرقية كردية في الشمال وعربية سنية في الوسط وعربية شيعية في الجنوب، ستكون لهذا الاتجاه مضاعفاته في المنطقة العربية بأكملها، خصوصاً هناك حيث التعدد الطائفي و/أو العرقي قائم، والأقلية الطائفية حاكمة او مقصية عن السلطة، اذ ان تأجيج الصراع المذهبي يفضي الى اضطرابات اهلية ومعها تفتيت الدول المعنية بذلك، وبخاصة سورية ولبنان، ليسهم في بناء شرق أوسط اميركي جديد قائم على تجاور مجموعة من الدويلات الطائفية والمذهبية والعرقية المتنافرة. ان المقولات الاميركية مثل"الحرب على الارهاب"و"الدفاع عن الديموقراطية"تتخذ دلالاتها الفعلية من خلال إدراجها في اطار هذا الخط الاستراتيجي العام للسياسة الاميركية، وهو ما يجدر تبنيه والبناء على مقتضاه وهو ما يمكن رؤيته من خلال متابعة الخلاف - المواجهة بين سورية ولبنان وأميركا وفرنسا منذ الاحتلال الاميركي للعراق، وفي هذه المتابعة يشغل قرار مجلس الامن 1559 علامة فارقة. وإذا كان انسحاب القوات السورية من لبنان قد شكّل تنفيذاً لأحد بنود هذا القرار، فإن في الإمكان اعتبار الحرب التي تشنها اسرائيل اليوم على لبنان محاولة لفرض تنفيذ بند آخر فيه، يتعلق بحل حزب الله او نزع سلاحه تحديداً. في هذه المواجهة بين"حزب الله"واسرائيل في لبنانوفلسطين يتراءى منطقان، منظوران وموقعان. الاول تحريري، يعتمد وسائل مشروعة لتحقيق اهداف وطنية وانسانية نبيلة: جماعة من المقاومة الوطنية - الاسلامية تخطف عسكريين من جيش محتل لمبادلتهما بأسرى من مواطنيها لديه، متابعة نهجاً في النضال أثبت جدواه في اكثر من حالة سابقاً. الثاني عدواني، لا يتورع عن اللجوء الى وسائل بربرية لتحقيق اهداف تحكمية، يذكر دجله في شأنها بالكذب الذي شاب الاهداف التي اعتمدت من الولاياتالمتحدة الاميركية وبريطانيا لتبرير غزوها واحتلالها العراق. يتابع من خلاله اصحابه نهجاً اضحى كلاسيكياً في ممارستهم اقصى درجات البطش والتنكيل بالمدنيين وممتلكاتهم، بما يتعارض وأبسط القوانين والأعراف الدولية وذلك لتأمين سيطرتهم على المنطقة ونهب ثرواتها. في ظل توازن للقوى فادح الاختلال لمصلحة الطرف الاسرائيلي، وعلى رغم امتلاكه وتوظيفه آلة تدميرية هائلة، فإنه لا يحظى فقط بدعم عسكري اميركي استثنائي يمده بأحدث الاسلحة والاجهزة التقنية في هذا المجال، وانما كذلك بدعم سياسي عالمي لا يقل اثراً وخطراً عن سابقه، بقدر ما يتيح له من تجاوز لكل محظور قانوني، وعدم مبالاة بأي محرّم اخلاقي، وهو ما مارسه بكل جدارة ويتابعه بكل إصرار. في المقابل لا يجري الاعتراف اميركياً وعالمياً بپ"حزب الله"كحركة مقاومة وطنية لبنانية، بل يتم وصمه بپ"الإرهاب"، واعتباره ملحقاً تابعاً للنظامين"الارهابيين"الايراني والسوري، في وقت يمارس فيه هذا الحزب دوره كحركة تحرر وطني اسلامية ويحظى بتأييد غالبية الشعب اللبناني ويعتبر من اكبر الاحزاب في لبنان إن لم يكن اكبرها، وهو في جميع الاحوال اكثرها تنظيماً وتعبئة وفاعلية، الامر الذي يجعل القضاء عليه مهمة مستحيلة ونزع سلاحه رغم ارادته عملاً مستبعداً. يؤكد ذلك صموده اليوم في وجه العدوان الاسرائيلي ومقاومته البطولية له، ليضيف الى مأثرته التاريخية السابقة في فرضه على اسرائيل الانسحاب من الاراضي اللبنانية، وانجازه بالتالي تحرير هذه الاراضي سنة 2000، مأثرة التصدي لأعتى عدوان اسرائيلي يتجدد عليها هذه الايام. ضمن هذا المنظور لا يبدو حل الصراع الاسرائيلي - الحزب اللهي واللبناني متاحاً على المدى القريب، مع كل ما يتضمنه ذلك من استمرار للعدوان الاسرائيلي البربري الظالم والجامح على لبنان. قد يكون في عملية ترحيل المواطنين الاجانب ومعظمهم لبنانيون مزدوجو الجنسية عن لبنان، واقتصار التدخل الدولي لدى الاسرائيليين كي يسمحوا بإقامة ممر آمن للخدمات والمساعدات الطبية والغذائية لعشرات الألوف من المنكوبين، في وقت اقترب عدد المهجرين والنازحين من المليون أي ما يعادل ربع عدد السكان المقيمين، ما يشير الى ترجيح استمرار هذا العدوان ومتابعته. ان الدول الكبرى، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الاميركية، وقد أضحى قرار وقف العدوان الاسرائيلي على لبنان مناطاً بها، لا تلجأ الى أي ضغط عسكري او اقتصادي او سياسي لتنفيذه، ناهيك باتخاذه، بل تبدو مشجعة اصحابه على التمادي فيه، وهم ليسوا في حاجة اصلاً الى تشجيع في هذا المجال. بذلك تتخلى عن مساعدة الشعب اللبناني الذي يقع فرض وقف فوري للنار في رأس احتياجاته الحيوية الراهنة، وتخون القيم والمبادئ الانسانية التي ترعى حقوق الشعوب والافراد، وتعطل المؤسسات العالمية التي تعمل بوحي من هذه القيم والمبادئ وتصطنعها لمصالحها الخاصة قبل أي اعتبار آخر. الا ان المسألة ليست انسانية بحتة، بل هي سياسية اولاً، وسياسياً تتفق المواقف والمصالح الاسرائيلية مع مواقف الكثير من هذه الدول ومصالحها، وهو ما تجدر مواجهته عملياً. قد يكون المرء بحاجة الى كثير من السذاجة كي يجد في الاهتمام الأميركي والفرنسي بلبنان حرصاً على قضايا التحرير والاستقلال والديموقراطية فيه. فالتحولات التي عرفها هذا البلد بعد اغتيال رفيق الحريري جاءت في سياق الضغوط التي كانت تمارسها الولاياتالمتحدة الأميركية على سورية كي تستجيب لحاجاتها وتنصاع لسياستها الطارئة بعد احداث ايلول سبتمبر 2001 واحتلال العراق في نيسان 2003، والتي أتاحت لكل من فرنسا واسرائيل العمل على تعزيز نفوذها والاستفادة من التراجع السوري والتغيير الحاصل في موازين القوى، لكسب مواقع لها ولحلفائها في السلطة ومؤسسات الدولة ومنها العسكرية، وقد شكل حزب الله في هذا الاطار، باعتباره في عرف هذه الدول الثلاث طرفاً ارهابياً وحليفاً قوياً للنظام السوري والايراني ورمزاً راقياً في المقاومة الاسلامية وانتصارها، هدفاً مشتركاً سعت الى التخلص منه. في ضوء هذه المعطيات تزول غرابة تدخل مجلس الامن في الشؤون اللبنانية واصداره قرارات أميركية - فرنسية لم تطلبها السلطات اللبنانية، بل تتعارض وما كانت هذه السلطات قد أجرته من اتفاقات، وما أقرته من مواثيق بين الدولتين اللبنانية والسورية، وقد وصل أمر هذا التدخل الى حد التعرض السافر لانتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية بموازاة التدخل الأميركي - الفرنسي المباشر في الانتخابات النيابية. في هذا السياق لم تأت معارضة التمديد لرئيس الجمهورية اميل لحود من باب احترام المبادئ الدستورية والقانونية، أو القيم والأعراف الديموقراطية، خصوصاً أن سابقة تمديد مماثل للرئيس السابق الياس الهراوي لم تثر أي اعتراض ذي شأن في حينه. لم يكن التمديد للرئيس لحود أقل دستورية أو ديموقراطية عن سابقه، لكن المطلوب كان ازاحة طرف ذي موقع رفيع في السلطة، عرفت العلاقة بينه وبين المقاومة حزب الله انطلاقاً من موقعه المذكور، في امتداداته العسكرية والأمنية خصوصاً، حداً عالياً من التفاهم والتعاون لم يتجسد في انجازات عملانية وحسب، بل قدّم كذلك طرحاً وخطاباً سياسياً وطنياً لم يعرفه لبنان طوال العهود الرئاسية السابقة من دون استثناء، هذا عدا عن كونه ركيزة أساسية من ركائز النفوذ السوري في هذا البلد، يحظى اجمالاً بعداء جميع القوى المعارضة لهذا النفوذ، لعل جانباً مهماً في الخلاف بين الرئيسين لحود والحريري كان يكمن في هذا الأمر تحديداً: الموقف من المقاومة حزب الله والعلاقة بالسلطة الحاكمة في دمشق. لقد مثل الرئيس لحود بامتياز الاتجاه الوطني اللاطائفي، وكان في خطابه السياسي يتقدم على جميع رؤساء الجمهورية السابقين، وعلى الكثير من رؤساء الحكومة ومنهم الرئيس الحريري نفسه وقد أدى به ذلك، في ظل المعطيات والشروط الطائفية للعمل السياسي في لبنان، الى أن يفتقر الى أي ركيزة طائفية مارونية ومسيحية وأن تقوم قوته خلافاً للمعهود والمألوف خارج طائفته. ليست المقاومة محصورة في المواجهة العسكرية المباشرة. وقوتها قائمة كذلك، وربما قبله، في حضورها الشعبي والسياسي، كما هي متوافرة في تحالفاتها وأوجه الدعم المختلفة التي ترفدها. في هذا الجانب الاخير يبرز النظامان الحاكمان في كل من ايران وسورية لتطرح علاقة حزب الله بهما تحفظات جوهرية. جميع التصريحات التي تطلق في صدد العدوان الإسرائيلي على لبنان لا قيمة تذكر لها ما لم ترتبط بإجراءات عملية وفاعلة لوقفه وردعه. لقد تجاوز هذا العدوان كل حدّ في الاستباحة تقتيلاً وتدميراً، وفي الوقاحة من دون تمويه أو تبرير بل متابعة حثيثة لسلوك نازي قائم على العنصرية والإبادة. مئات القتلى من المدنيين، عشرات المئات من الجرحى، مئات الألوف من المهجرين، بيوت وأحياء مدمرة بكاملها، طرق مقطوعة وجسور منسوفة، قتل الناس في بيوتهم وسياراتهم مختبئين وفارين... هذا ما ينبغي أن يتوقف فوراً وأن يعاقب فاعلوه وأن يعوض عاجلاً إن لم يكن حالاً ضحاياه. من الجامعة والدول العربية ومن الأممالمتحدة ودول العالم، ومن المنظمة الإسلامية التي يتمثل لبنان عضواً استثنائياً فيها الى منظمة الدول الفرنكوفونية التي شهدت بيروت احدى قممها اللامعة، مروراً بمنظمة البلدان المصدرة للنفط... ينبغي استنهاض كل القوى الحية واتخاذ كل الإجراءات سياسياً وديبلوماسياً واقتصادياً وانما كذلك ثقافياً لوقف هذا الدمار الهائل للبلد ومحاسبة القائمين به حكومة وأفراداً قادة سياسيين عسكريين مسؤولين في الكيان الصهيوني باعتبارهم مجرمي حرب عزّ نظيرهم، مع تاريخ عريق وحافل بالممارسات الإجرامية والإرهابية منذ قيام دولة اسرائيل بل قبله وبعده من دون أن يوضع لها حدّ، فتمضي لتتجاوز في كل مرة سابقتها من دون وازع أو احتفال بأحد. - نقطة الضعف الاستراتيجية في وضع المقاومة اللبنانية حزب الله وهي ما قد تكون نقطة قوتها التكتيكية محلياً، تتمثل في الطابع الديني الذي يسم كيانها ويحكم سياساتها ومواقفها، وهو ما يشكل في الوضع الطائفي اللبناني خطراً عظيماً قد يفضي الى نزاعات أو حروب أهلية طائفية لا تنتهي، أو الى ديكتاتورية مذهبية في كانتونات أو دويلات لا تستبعدها مشاريع الشرق الأوسط الجديد الأميركية - لعل باب الخروج من هذا التضعضع والاختلال في مواجهة العدوان الاسرائيلي يكون في تأمين جبهة وطنية داخلية قوية ومتماسكة، يكون الرئيس لحود في قيادتها، وتأليف حكومة وحدة وطنية جامعة يكون الرئيس الحص في رئاستها، وتعلن التعبئة العامة فيتولى الجيش قيادة وحداتها العسكرية، والمنظمات الوطنية والبلديات وحداتها الدفاعية المدنية. تباشر الحكومة مفاوضات حثيثة مع سورية بغرض التوصل في أسرع وقت الى ورقة تفاهم بصدد المسائل الخلافية الأساسية، على أن يتم لاحقاً إرساء اتفاقيات استراتيجية ملائمة. قد يكون ضرورياً العمل في موازاة ذلك على تكوين جبهة شعبية عربية، بديل جبهة"شرقية"اعتمدت مرة لتعويض غياب مصر عن الصراع العربي - الإسرائيلي، وعالمية وضمناً إسلامية ويهودية؟ تعويضاً عن غياب"عالمثالثي"أو"حيادي إيجابي"تقام مرة لتأمين تعاون وتضامن بين القوى المجابهة للإمبريالية، ما يتطلب النظر في استراتيجية جديدة للمقاومة والتحرير. - ينبغي أن تحظى القوى الاسرائيلية المعادية للحرب بالتقدير، على أن يتركز العمل على التعاون مع القوى المعادية للصهيونية في إسرائيل وخارجها، واعتبارها قوى استراتيجية جديرة بالرهان التاريخي عليها من أجل تغيير ما هو شاذ دولة إسرائيل العنصرية والحؤول دون تكراره. 25/7/2006 * كاتب لبناني.