يمكن امطار السياسة الأميركية بأقسى النعوت. القول إنها منحازة الى اسرائيل ليس جديداً. واشنطن نفسها لا تبدو مهتمة فعلاً بتبديد هذا الانطباع. محاكمة إدارة جورج بوش على صفحات الصحف أو شاشات الفضائيات لا تلغي أن كوندوليزا رايس وحدها تحمل مفاتيح وقف النار. وقف نار نحتاج اليه كي لا تتمكن الحرب من قتل لبنان ولمنع امتدادها الى خارج مسرحها الحالي. تنظر رايس الى المنطقة انطلاقاً من الهاجس الإيراني. ترى المنطقة مليئة ب"المفاعلات". تعتبر احتجاز"حماس"الجندي الاسرائيلي نوعاً محظوراً من التخصيب. تعتبر استضافة سورية لخالد مشعل نوعاً من الضلوع في دورة الوقود الاقليمية. تتعامل مع"حزب الله"بوصفه مفاعلاً ارتكب عبر خطف الجنديين الإسرائيليين خطيئة تخصيب لا يمكن معالجتها بأقل من حرمان الحزب من قدرته على التخصيب. ترى الخيط الإيراني ممتداً من غزة الى بيروت عبر دمشق. تقرأ رايس أحداث المنطقة في ضوء فهم إدارتها لخطورة وجود الترسانات في أيدي"دول مارقة"أو"منظمات ارهابية"وتدرج الفريقين في"محور الشر". عندما تأتي رايس الى هذا الجزء الصعب من العالم لا بد لأهله من تذكر ما لا بد من تذكره بغض النظر عن مشاعرهم حيال سياسة بلادها. إنها وزيرة خارجية القوة العظمى الوحيدة. ونحن نعيش في عالم ما بعد 11 ايلول سبتمبر وغزو العراق. ثم اننا نعيش في ظل حزمة من القرارات الدولية بينها القرار 1559 بما نفذ منه وما لم ينفذ. وفي موازاة ذلك كله نعيش في ظل تفجر الملف الإيراني سواء لجهة الأحلام النووية أو حلم الدولة الكبرى في الاقليم. وليس الغرض من تذكر كل ذلك القول بالاستسلام لكل ما تقوله الزائرة، بل هو فهم المسائل والموازين والاحجام تجنباً لسوء التقدير وهو مكلف في هذه الأيام. في التصريحات التي أدلت بها قبل توجهها الى المنطقة كشفت رايس الأساس الذي تنطلق منه في تحركها: لا معنى لوقف للنار يعيد الوضع الى ما كان عليه لحظة اندلاعها، وان البحث يجب ان يتركز على الأسس السياسية لوقف دائم للنار. وهذا يعني ببساطة حرمان إيران من حق الإقامة على حدود اسرائيل عبر مرابطة"حزب الله"هناك وحرمان سورية من القدرة على التذكير بمطالبها ودورها عبر قدرة الحزب نفسه على تحريك الجبهة هناك. وهذا يعني عملياً قطع الاتصال بين"المفاعلات"في المنطقة. على رغم تصاعد الإدانات الدولية لعمليات التدمير الوحشية التي تنفذها إسرائيل في لبنان وبعض التصدع في الجبهة الغربية حول الطابع الملح لوقف فوري للنار، فإن إدارة بوش تبدو ممسكة بالمفاتيح. يعزز هذا الانطباع إعلان ايهود أولمرت أن الحرب ستكون طويلة وربما طويلة جداً. وهذا يعني ان إدارة بوش التي تحمّل"حزب الله"مسؤولية اطلاق المواجهة الحالية تصر على ان يدفع الحزب ثمن وقف النار. والثمن الكبير الذي تطلبه هو إبعاد الحزب عن الحدود اللبنانية - الإسرائيلية وتجريده من ترسانته أو على الأقل حرمانه من القدرة على استخدامها. وهذا يعني عملياً قطع الاتصال بين"المفاعلات"وتجريد الحزب من دوره الاقليمي. أي رهان على انضاج ظروف وقف النار عن طريق طوفان النار الذي ينصب على لبنان سيكون بالغ الخطورة على لبنان ودولته وحكومته. والسبيل الوحيد لوقف دائم للنار هو الالتفات الى الأسباب الحقيقية التي أدت الى قيام"المفاعلات"وبررت عمليات التخصيب، أي وجود أرض محتلة وما استتبع ذلك من مسائل الأسرى. فأي رزمة مقترحات تتضمن عودة مزارع شبعا وعودة الأسرى ستؤدي عملياً الى وقف ما تعتبره واشنطن بمثابة عمليات تخصيب اقليمية على الأرض اللبنانية. ثم ان الفصل الجدي بين"مفاعلات"المنطقة متعذر من دون التصدي لجوهر المشكلة. والتصدي يمكن ان يبدأ بإعادة احياء"خريطة الطريق"ومبادرة السلام العربية. فالتعنت الإسرائيلي الذي اغلق كل بوابات الأمل هو السبب الأول الذي سهل قيام"المفاعلات"ودورة التخصيب الاقليمية. إن اشعاعات مفاعل الاحتلال أشد ضراوة من وجود مفاعل ديمونة.