كيف يفسر المرء الهجمات الانتحارية المدمرة التي وقعت هذا الاسبوع في الرياض؟ طبعاً لا بد لنا مبدئياً من ادانة كل عمل ارهابي، ولكن علينا ايضاً ان نسعى الى فهم هذا العمل ونفكر ملياً في المعنى الذي ينطوي عليه. فالذي يبدو انه دليل على ان تنظيم "القاعدة" - أو شيئاً آخر مشابها تماماً، ما زال حياً ونشيطاً وان اعضاءه عاقدون العزم على قتل الاميركيين وانهم مستعدون للموت في سبيل ذلك. فهنالك جميع المواصفات الخاصة بعمليات القاعدة الانتحارية خلال السنوات الأخيرة، سواء منها الهجمات ضد السفارات الاميركية في شرق افريقيا أم ضد البارجة الاميركية "كول" في عدن أم ضد برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك... هذا اذا اقتصرنا على ذكر العمليات الأكثر دراماتيكية. لا شك ان التفجيرات التي وقعت في المجمع السكني في الرياض ووقوع عدد كبير من القتلى والجرحى الأجانب تشكل عبئاً خطيراً بالنسبة للحكومة السعودية. فليس هناك من دولة يمكنها ان تقبل بوقوع اعمال عنف على أراضيها تنشر الرعب وتضعف السلطة وتسيء الى الاقتصاد وقد تؤدي الى هجرة الأجانب. غير ان الحكومة السعودية كانت تسعى الى خروج القوات الاميركية من أراضي المملكة أملاً في تجنيب البلاد الآثار السلبية لهذا التواجد غير المرغوب فيه. وستعاني السعودية مزيداً من الحقد من قبل كارهي العرب الذين يحاولون منذ أمد بعيد نزع الاستقرار في المملكة والذين سيستغلون الهجمات الأخيرة كي يصفوا السعودية بأنها معقل التعصب. ولعل الهدف الرئيسي للإرهابيين هو الولاياتالمتحدة لا المملكة السعودية. اذ علينا ان ننظر الى هذه الهجمات، كمثيلاتها السابقة، على انها نوع من الرد العنيف يوجهه اعضاء شبكات العنف العربية والاسلامية على العنف الذي تمارسه اميركا وحلفاؤها ضدهم. وهذه الحلقة الأخيرة من اعمال الارهاب هي جزء من حرب مستمرة لا يمكن لأميركا ان تكسبها على رغم قوتها الساحقة. فهي تطرح التساؤل حول ما إذا كانت اميركا تواجه التحدي بشكل فاعل أم ان أعمالها وسياستها هي التي تغذي الارهاب الذي تريد القضاء عليه. ماذا يريد المقاتلون؟ في أول رد فعل له على اخبار الرياض السيئة، قال الرئيس بوش "هذه الأعمال الحقيرة هي من صنع قتلة لا يؤمنون إلا بالكراهية... وستقبض اميركا عليهم وسيفهمون معنى العدالة الاميركية". يجيء هذا القول على لسان أصولي مسيحي قامت جيوشه بتدمير البنى التحتية المدنية في العراق، وتنكر لوعوده بإعادة بناء ما هدمه في أفغانستان، وما زال يعتقل عدداً كبيراً من المسلمين، بينهم أطفال، بصورة مخالفة للقانون في خليج غوانتانامو. هذا الرجل الذي يستعد ليستقبل بكل مظاهر الحفاوة في البيت الأبيض أعنف رئيس حكومة في تاريخ اسرائيل الذي دمر المجتمع الفلسطيني في سعيه المتعصب المحموم لتحقيق "اسرائيل الكبرى". ويبدو ان الرئيس الاميركي لا يدرك أو أنه لا يريد ان يدرك أن مواقف ادارته وسياساتها قد غذت بشكل غير مسبوق عواطف الغضب ضد اميركا في العالمين العربي والاسلامي. فلدى وقوع أحداث الرياض تساءل السفير الاميركي هناك السيد روبرت جوردن، عن اسباب تعرض الاميركيين للهجمات في الوقت الذي اعلنت اميركا انها ستسحب قواتها من المملكة. وهذا التساؤل يدل على الفهم الضيق والمتأخر لأهداف المقاتلين ومشاعرهم. أجل ان وجود القوات الاميركية في المملكة هو فعلاً أحد أسباب النقمة لدى اعضاء القاعدة، وكان على هذه القوات مغادرة البلاد منذ سنين عدة. غير ان هنالك مآخذ كثيرة اخرى كالهجوم الوحشي على افغانستانوالعراق وما انتهى اليه من ضحايا بشرية وتدمير مادي، والتأييد الأعمى لاسرائيل في قمعها للفلسطينيين، وملاحقة المنظمات الاسلامية والمؤسسات الخيرية والأفراد التابعين لها على نطاق العالم بأسره، و"الحرب العقابية على الارهاب" التي تشمل عدداً كبيراً من التدابير التي يعتبرها المقاتلون حرباً على الاسلام نفسه. ولقد صرح وزير السياحة الاسرائيلي المدعو بني ألون لصحيفة "هآرتس" في مطلع هذا الشهر قائلاً: "من الواضح ان الاسلام في طريقه الى الزوال... فما نشاهده اليوم في العالم الاسلامي ليس انتفاضة ايمان قوية، بل إنطفاء جذوة الاسلام. أما كيف سيزول فبكل بساطة، بقيام حرب مسيحية صليبية ضد الاسلام في غضون بضع سنوات، ستكون الحدث الأهم في هذه الألفية. وطبعاً سنواجه مشكلة كبرى حين لا يبقى في الساحة سوى الديانتين الكبيرتين، اليهودية والمسيحية، غير ان ذلك ما زال متروكاً للمستقبل البعيد". مثل هذه الآراء تستفز ولا شك مشاعر مليار من المسلمين في انحاء العالم. ولكن حين تستلهم السياسات الاميركية مثل هذه المشاعر البغيضة المعادية للاسلام فإنها تولد المقاومة وتغذيها وهذا ما نشاهده الآن. ولقد صدم الرأي العام العربي والاسلامي، بل في معظم الدول الأوروبية ايضاً، بالخداع والمراوغة اللذين مهدا للحرب على العراق. فأسلحة الدمار الشامل لم تكن سوى ذريعة جوفاء للاجتياح شأنها شأن الادعاء الذي جرى ترويجه بوجود علاقات بين العراق و"القاعدة" والذي لم يقم عليه أي دليل. فالهدف الحقيقي للمحافظين الجدد وحلفائهم من الصهاينة المتطرفين هو اعادة تشكيل الشرق الأوسط بواسطة القوة العسكرية املاً في جعله موالياً لأميركا ولاسرائيل، وذلك بخلق الظروف كي تفرض اسرائيل ارادتها على الفلسطينيين وعلى المنطقة بأسرها. وليست "القاعدة" حركة المقاومة الوحيدة التي تواجهها اميركا، وان كانت الأكثر عنفاً وتطرفاً في اساليبها وتصميمها. فقد شاهدنا مطلع هذا الاسبوع كيف دعا آية الله محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الاسلامية، لدى عودته الى النجف، الى مقاومة الاحتلال معلناً معارضته الصارخة للسياسات الاميركية. كذلك الأمر بالنسبة الى الرئيس الايراني محمد خاتمي الذي قوبل خطابه في لبنان بالتصفيق الحاد، حين اشاد بالمقاومة اللبنانية المستمرة، فتبعه زعيم "حزب الله" الشيخ حسن نصرالله ليعلن بأن حزبه وايران يقفان يداً بيد مع سورية ولبنان والفلسطينيين وبأن الموقف الأساس هو اننا لن نخضع ولن نفرط بحقوقنا. وعلى رغم توصيفه بالمنظمة الارهابية من قبل اميركا واسرائيل، فإن "حزب الله" يعتبر حركة مقاومة أفلحت في منح لبنان قوة ردع ضد أي هجمة اسرائيلية واصبحت جزءاً فعلياً من الحياة السياسية في لبنان. أخطار ديبلوماسية واشنطن القسرية تخضع واشنطن لقبضة من الرجال يؤمنون بما يسمونه "الديبلوماسية القسرية" التي تعني على ما يبدو انفراد اميركا باستخدام قوتها الحربية الجبارة من دون أي كبح من قبل الأممالمتحدة أو القانون الدولي لإخضاع وتهديد كل من تسول له نفسه مقاومة اسرائيل أو اميركا. لقد بدأ صقور واشنطن الذين جاءت بهم ادارة الرئيس بوش والذين اشتدت قبضتهم اثر الصدمة القوية التي اصابت اميركا في 11 ايلول سبتمبر، بتوجيه حربهم ضد صدام حسين. لكنهم ما ان فرغوا من احتلال العراق حتى اخذوا يمارسون الضغط على سورية وايران ولبنان وحزب الله وعلى الفصائل الفلسطينية المناضلة. هذا في الوقت الذي يحولون دون أي محاولة اميركية للضغط على اسرائيل والحد من عنف شارون. وقد اختار هذا الأخير عشية سفره، مسلحاً بدعم الكونغرس وأصدقائه في قلب البيت الأبيض، هذا الوقت ليعلن بأنه لا يتوقع أي ضغط من قبل واشنطن لتفكيك المستوطنات. ويصرح: "ليس هنالك أي ضغط من أي جهة. وليس في الأفق أي تغيير لسياسة اسرائيل الاستيطانية"، الأمر الذي يعتبر صداً وتحدياً مباشراً لكولن باول وزير الخارجية الاميركي الذي طاف في المنطقة نهاية الأسبوع الماضي مبشراً ب"خريطة الطريق" للسلام العربي - الاسرائيلي. بل هو تحدٍ مباشر لرؤية الرئيس بوش في دولة فلسطينية تعيش بسلام الى جانب اسرائيل. والواقع انه يصعب على أي انسان في الشرق الأوسط ان يصدق أن بوش يمتلك قدرة سياسية أو حتى ميلاً شخصياً لمجابهة شارون. فلقد وقف متفرجاً في سلبية تامة أمام حملة شارون الهوجاء في الأراضي الفلسطينية خلال السنتين الماضيتين اللتين اغتال فيهما الناشطين الفلسطينيين والمارة الأبرياء وهدم البيوت ودرس البساتين مصادراً الأراضي وفارضاً إقفال الممرات ومنع التجول الى جانب قتل نشطاء السلام الاميركيين والبريطانيين. ويحاول المفكرون في واشنطن سواء في اجهزة الاعلام ام في خلايا التحليل والتفكير ان يفسروا معارضة السياسات الاميركية بأنها من فعل المتعصبين المسلمين من نتاج المجتمعات المريضة والمتخلفة. وهذا التشخيص المضلل هو في اعتقادي الذي أثر على حكم واقتناع الكثير من الاميركيين وأدى بهم الى الانعزال عن الواقع السياسي. والواقع ان معارضة السياسية الاميركي هي موقف سياسي حتى وان جاءت صياغته بتعابير دينية. انها رد على السياسات الاميركية والاسرائيلية، فهي خلافاً لرأي واشنطن لا صلة لها بالأوضاع الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية في العالمين العربي والاسلامي. صحيح ان المجتمعات العربية والاسلامية بحاجة ماسة الى الاصلاح في هذه الميادين، لكن الصحيح ايضاً هو ان هنالك مقاومة شعبية واسعة النطاق للسياسات المعادية التي تتبناها الدولة الأعظم وحلفاؤها المعتدّون بقوتها. * كاتب وصحافي بريطاني خبير في الشؤون العربية.