تسعى الحكومة اللبنانية الى إقناع الفرقاء السياسيين والرأي العام اللبناني بضرورة إقرار اجراءات اصلاحية ضريبية وإدارية من أجل تفعيل الاقتصاد اللبناني وإكسابه قدرة على النمو بمعدلات تسمح بتوسع فرص العمل واستيعاب الطاقات والمهارات الشبابية. من هذا المنطلق، يمكن القول أن مساعي الحكومة تراوح مكانها منذ خريف 2005. فهناك كل شهرين أو ثلاثة أشهر أزمة قد تكون مفتعلة أو حقيقية، طابعها سياسي، تؤخر بت القضايا الاقتصادية الجوهرية والاصلاحية الادارية لبضعة أشهر، يستمر خلالها تنامي الدين العام وتوسع شره المستفيدين من الوضع الحالي وتردي علاقة المواطن بالدولة. لبنان في حاجة الى الخروج من هذه الدوامة المخيفة، ولن يكون ذلك عن طريق تشريعات توسع دور القطاع العام في الحياة الاقتصادية والرعائية. فالمؤكد هو أن فعالية المؤسسات العامة شبه معدومة وحوافز الإنتاجية غير محددة ولا هي معتمدة لتحسين شروط العمل. فغالبية من هم في مراكز المسؤولية يعتبرون أن مسؤوليتهم الاساسية هي تقديم مصالح أبناء ملتهم على مصالح الآخرين. بكلام آخر، الإدارة اللبنانية في زواياها وحناياها ليست إدارة وطنية قدر ما هي وجه من أوجه تفاقم المذهبية والطائفية. وهنا لا بد من طرح سؤال بالغ الأهمية: هل خسر لبنان القدرة على المعاصرة؟ وهل أصبح مستحيلاً عليه مواكبة تحديات العولمة؟ اذا كان جواب التساؤلين ايجاباً يبقى السؤال المخيف: هل كتب على لبنان التقهقر الى مراتب التخلف كلما استطاع اللبنانيون تحقيق منجزات كبيرة في الخارج؟ هل نحن فعلاً مجتمع فاشل، وان كان نسيجه مؤلف من أفراد موهوبين؟ وهل يجوز أن نبدد الطاقات والمعارف من دون أن نوفر لجيل الشباب قواعد النجاح في اقتصاد عالمي ينفتح على بعضه البعض بسرعة مذهلة، والبرهان آت من الصين - البلد الشيوعي الأكبر - الذي أصبح بيضة الميزان في اقتصاد العولمة؟ فإذا أوصدت الصين أبوابها في وجه الاستثمار والتجهيز تقضي على صناعات برمتها في اليابان. كما ان المانياوالولاياتالمتحدة تعيش اليوم من حجم ونمو حاجات الصين. واذا شاءت بكين خفض سعر عملتها - وهذا أمر لن يحدث اذ أن الضغط عليها هدفه دفعها الى زيادة قيمة اليوان - تستطيع التأثير سلباً في صناعة المنسوجات على نطاق عالمي. وإذا ارتأت خفض معدل زيادة استهلاك البنزين ومصادر الطاقة الأخرى من سبيل رفع الضرائب على شراء وتسجيل السيارات، وعلى استهلاك المازوت والكهرباء للتدفئة المنزلية، تستطيع تخفيف حدة أزمة الطاقة عالمياً وتساهم في تهدئة الأسواق. وربما لا يدرك كثيرون أن من أسباب تقبل الولاياتالمتحدة أسعار نفط مرتفعة، رغبتها في ضرب الإقتصاد الصيني من جهة عن سبيل رفع كلفة فاتورته النفطية، ورفع اكلاف الإنتاج في أوروبا من جهة ثانية، وكلا الهدفين تحققا بنسب متفاوتة. قبل عشرين أو ثلاثين سنة كان اللبناني العادي، عندما يواجه مشكلة تبدو مستعصية، يقول إبحث عن الحل في الصين، وهذا الموقف كان يعبر عن شعور اللبنانيين ان الصين بعيدة جغرافياً وسياسياً واقتصادياً عن حياتنا. بعد هجمة العولمة وانفتاح الأسواق المالية والاستثمارية، وتحرير التجارة الدولية الى حد بعيد، لم تعد الصين الشيوعية، أي الدولة التي تملك غالبية المؤسسات الكبيرة الفاعلة والتي كان القرار المركزي فيها حكراً على المسؤولين الحزبيين، تتصرف كبلد شيوعي. بل انفتحت على الاستثمارات الدولية وعلى المنافسة، وأصبحت بمعطياتها البشرية والمادية بلداً بالغ الأهمية لمستقبل الاقتصاد العالمي وباتت البلد الذي يحقق أعلى معدل نمو في العالم. انتقلت الصين من الانغلاق الى الانفتاح. من الأيديولوجية الى المعلوماتية، ومن الخوف من الغير الى الثقة بالقدرة على منافسته في عقر داره وتحقيق نجاحات كبيرة. طبعاً لبنان ليس الصين، بل هو نقيضها. عدد اللبنانيين ضئيل نسبياً، والانكباب على المهارات التصنيعية الدقيقة صعب التحقيق، وإجراءات العمل والمنافسة بالغة التعقيد. فائدة لبنان من النظر الى خبرة الصين خلال العقدين المنصرمين تعود الى إدراك منفعة التخلي عن التمسك باعتبارات عقائدية، قد تكون حزبية في بلاد علمانية أو شبه علمانية، وقد تكون كما هي في لبنان طائفية ومذهبية. ما يمكن تأكيده، ان نجاح برنامج اقتصادي اجتماعي في لبنان، قياساً على التوقعات الحالية والمستقبلية، يرتهن بقدرتنا على سحب القرار المذهبي من على بساط القرار الوطني. وأي تطوير للاقتصاد اللبناني لن يتحقق وحجم القطاع العام على ما هو عليه، وبعض مسؤوليات هذا القطاع على عاتق الدولة في حين كانت سابقاً من مسؤولية القطاع الخاص، وأن يكن ضمن تنظيم عام كما كان وضع الكهرباء ووضع المصافي في لبنان. ان تسريع عملية النمو وترسيخ الخيارات العقلانية، أمور ترتهن بإبعاد الطائفية والمذهبية عن القرار التصميمي، ومن ثم السير بالعمل على أكتاف القادرين من أي فئة كانوا ولأي مذهب انتسبوا. إضافة الى هذا الخيار، لا بد من حصر نطاق نشاطات القطاع العام. فحجم هذا القطاع وأمراضه المتفشية هو السرطان الذي يلتهم القدرات وآمال المستقبل ويؤدي بالتالي الى تفشي نفسية التخلف ومظاهره في كل شأن. * مستشار اقتصادي