ونعني هنا بالحبس السياسي، أي السجن والاعتقال، ما عانى منه المئات في مصر في الشهور الماضية نتيجة تضامنهم مع القضاة في مطالبهم المهنية. المحبوسون هنا هم من معظم فئات المجتمع طبقياً ومهنياً. أما إطلاق الكلام المحبوس، وهو ما يعنينا هنا، فقد انطلق مما يُطلق عليه الآن"المدوّنات"التي اجتاحت الشبكة الالكترونية. وانطلاق الكلام السياسي يعنيني كثيرا ويعنيني بدرجة اكبر انطلاق المدوّنات حاملة الكلام السياسي. تعنيني ظاهرة اندماج الكلام السياسي بالكلام الأدبي. ظاهرة جديدة غير مسبوقة من"متكلمين"لم يكن الكلام السياسي-الأدبي حرفتهم من قبل. الكلام الذي أطلقه الحبس سوف أطلق عليه أدب المحابيس وثقافتهم. ففي منتصف الستينات حينما ظهرت"تلك الرائحة"لصنع الله إبراهيم، ظهر معها جنس أدبي جديد هو"أدب السجون"يتعامل مع واقع الحبس كما هو من دون تزويق. كان صناع هذا الأدب من المحابيس الذين اختاروا الانخراط في السياسة والمعارضة للنظم الحاكمة. وبالتالي، فكتاباتهم السياسية-الأدبية كانت تبحث عن التوازن المطلوب من أمثالهم بين رؤيتهم السياسية لنظام يعتبرون أنه، على رغم وطنيته، حاد أو ضل الطريق فقسا على الوطنيين لضيقه بالنقد. لكن"المتكلمة"الجدد وجدوا أنفسهم بمواجهة نظام أو أنظمة أزاحوا عنها ورقة التوت واتهموها بالمروق عن الوطنية. وهم ايضا لم يختاروا احتراف العمل السياسي - الأدبي. هذا اختلاف مهم يعكس اختلاف الحالة السياسية بين الستينات وأوائل هذا القرن. ويعكس أيضاً حالة من السيولة السياسية التي لا تتأطّر في تنظيمات هيكلية مثل"حركة كفاية"والتي أطلقت على نفسها اصطلاح حركة قبل ان يطلقه الآخرون عليها، لمعرفتها الوثيقة بأنها"حركة"تعكس حراك الشارع. أما المدوّنات فشخصانية بحته. لا تضمها حركة سياسية أو اجتماعية سوى إحساس صاحب المدوّنة"الوطني"أو"الاجتماعي"أو"الديني"، وبالتالي فهي تعكس سيولة ديموقراطية تسمح ل"المجهولين"بأن يرتادوها بأسماء مستعارة ويدلوا بآرائهم فيها حتى لو كانت مناقضة لرأي أصحاب المدوّنة، بل يسبّونهم بجوارح النعوت! ظهر هذا الجنس الجديد وفرض نفسه على الشبكة الالكترونية متخطياً الرقباء الرسميين والذين عيّنوا أنفسهم أوصياء. اصبحت المدوّنات العربية خارج الوصاية وتحولت إلى"ظاهرة"يجتمع لمناقشتها وزراء الداخلية العرب بذريعة التصدي للأفكار الهدامة والمتطرفة التي تنتشر، أيضاً، عبر الشبكة. لكن ماذا يجدي التصدي هنا، علماً بأنه على رغم محاولة سن عقوبات جنائية على المدوّنين، فإنهم يتمتعون بتأييد دولي وداخلي مثل"مدوّنة منال وعلاء"التي مُنحت جائزة"صحافيون بلا حدود". بل أن بعض أجهزة الأمن التي تحاول اختراق المدوّنات تجد أنفسها أمام حالات غير مسبوقة ومدوّنات جديدة، أصحابها برعوا في علم الكمبيوتر ويعيدون خلق أنفسهم مثل العنقاء. الأدب السياسي الجديد يكتبه مدوّنون ومحابيس لا علاقة هيكلية لهم بتنظيم سياسي أو فكر محدد، بل ان تجربتهم الشخصية فرضت عليهم رؤية سياسية جديدة، كما أعلن"علاء"المنتمي إلى أفكار اليسار"السائلة"، معتبراً أنه، بعد تجربته في السجن مع شباب الأخوان المسلمين، وجدهم مثل بقية الشباب يستمعون إلى الأغاني ويتعاملون بحرفية مع الشبكة وأنه من الضروري فتح نقاش وحوار معهم. إطلاق فكرة كهذه كان محرّماً، أيّده فيها آخرون لفتح نقاش مع الإخوان المسلمين مستبشرين بنوعية شبابهم العصرية. وإطلاق كلام كهذا لا يعبّر فحسب عن حالة سياسية جديدة، بل عن أدب سياسي جديد يتعامل مع واقع السجن ويعبر عن خوف وتردد أصحابه من فكرة النضال السياسي وجدواه! ويكتبون هذا بشجاعة من دون ان يعتبروا أنفسهم مناضلين وأبطالاً. فنحن أمام"هواة سياسيين"يرفضون ان يعتبرهم الآخرون محترفي سياسة. المتكلمون الجدد يتعاملون مع السياسة بنفس البساطة التي يتعاملون بها مع الواقع ومع الأدب. هم شباب يحبون الحياة وبعضهم يجيد أكثر من لغة ومعظمهم يتعامل مع الشبكة بحرفية عالية ويتمتعون بما تقدمه لهم إمكاناتهم من مباهج الحياة.منذ سنوات قليلة كان، وما يزال، اليسار التقليدي ، يحرّم فكرياً الحوار مع الإخوان المسلمين. كما كان التحريم ذاته يصدر من جماعة الإخوان. لكن يبدو ان الحبس الحالي أطلق حُبسة الكلام التي لن يستطيع الحرس القديم من الجانبين إيقافها، لا سياسيا ولا أدبياً. فالشكر لسلطة الحبس!