حفلت نهائيات كأس العالم ال18 لكرة القدم، التي استضافتها ألمانيا من 9 حزيران يونيو الماضي حتى 9 تموز يوليو الجاري، بالكثير من المحطات التي يجدر التوقف عندها، لكنها فرضت من دون شك أفضلية الكرة الأوروبية على نظيرتها الأميركية الجنوبية، وأكدت أن التنظيم الدفاعي بات انجح الوسائل لإحراز اللقب. شهر كامل من المنافسات بين أفضل منتخبات العالم من جميع القارات، سبقته معسكرات اللمسات الأخيرة ومباريات ودية وصل معها عشاق اللعبة إلى درجة من الإشباع الكروي، وباتوا كما اللاعبون في حاجة إلى فرصة لالتقاط أنفاسهم، قبل أن تُطرق أبواب البطولات المحلية، خصوصاً الأوروبية منها، إيذاناً بالعودة إلى ساحة المعركة مجدداً. منتخبات خيبت الآمال لأنها لم تقدم مستوياتها المعهودة فخرجت باكراً وصدمت مناصريها، وأخرى لعبت بشكل رائع في الدور الأول، وعاندها الحظ لاحقاً فودعت وكانت الصدمة اكبر، ومنتخبات تراجعت عما قدمته في النسخة الماضية، خصوصاً على الصعيد الآسيوي، ومنتخبات فشلت في تلميع صورتها. وهناك منتخبات تعرضت إلى كثير من الانتقادات في الدور الأول، لأن عروضها كانت من الأسوأ في البطولة، فلم يتوقع لها احد الذهاب بعيداً، لكنها خالفت ذلك وحجزت أماكنها في ادوار متقدمة، ومنها منتخبان خاضا المباراة النهائية. والأهم من كل هذا، أن النهائيات الحالية لم ترق بكرة القدم إلى مستوى مرتفع، على رغم امتلاك معظم المنتخبات ترسانة من اللاعبين الموهوبين، تحت إشراف مدربين لهم باع طويل وقدرات هائلة، وغلب التنظيم الدفاعي على الفعالية الهجومية، ما انعكس بدوره على جمالية الأداء التي تطرب لها الجماهير، فخرجت نتائج كثيرة بمستوى متدن من الأهداف، أو حتى من دونها. ودافع المدربون عن اداء منتخباتهم، حتى في المباريات التي لم يقدموا فيها مستويات جيدة، فدخلت كرة القدم مع ذلك في مزيج من الأوصاف، التكتيك العالي والواقعية واللياقة البدنية المرتفعة، الا ان كل ذلك، وحتى النتائج الجيدة التي اسفرت عنها تلك المباريات، لم يكن مقنعاً كثيراً. والاحصاءات تشير بوضوح إلى تواضع معدل تسجيل الأهداف في البطولة، اذ شهدت ثاني ادنى معدل من الأهداف في المباراة الواحدة 2.29 هدف بعد"مونديال"1990 في ايطاليا 2.21. حتى ان هداف البطولة الالماني ميروسلاف كلوزه اكتفى بخمسة أهداف فقط، وهو ثاني ادنى معدل في تاريخ كأس العالم بعد"مونديالي"1934 في ايطاليا و1962 في تشيلي، وتقاسم في كل من النسختين لقب الهداف أكثر من لاعب برصيد أربعة أهداف لكل منهم. منتخبات غير مقنعة صدمتان طبعتا نهائيات"مونديال"ألمانيا، الأولى تمثلت في خروج الأرجنتين من ربع النهائي أمام الدولة المضيفة، والثانية في فقدان البرازيل لقبها بخسارتها أمام فرنسا مجدداً في الدور ذاته. أمتعت الأرجنتين الجميع في الدور الأول، خصوصاً في مباراتها مع صربيا ومونتينيغرو، حين دكت شباكها بستة أهداف نظيفة، كان أروعها هدف استيبان كامبياسو الذي شهد 24 تمريرة، حضّر على إثرها المهاجم هرنان كريسبو كرة بكعبه إلى كامبياسو فأكملها في الشباك. وكانت فعالة أيضاً أمام ساحل العاج في مباراتها الأولى بتسجيلها هدفين، ودفاعاً بصدها هجمات الأفارقة السريعة، وجاءت مباراة القمة ضد هولندا، التي شارك فيها عدد من اللاعبين الاحتياطيين، لتؤكد علو كعب الأرجنتينيين. وكانت صفوف منتخب الارجنتين زاخرة بالمواهب فعلاً، من خوان رومان ريكيلمي إلى سافيولا إلى كريسبو وهاينتزه وميسي وتيفيز وايالا وايمار وغيرهم، لكنهم فشلوا في تكرار انجاز الأسطورة دييغو مارادونا، الذي قاد المنتخب إلى اللقب عام 1986 والنهائي عام 1990، فخسروا أمام ألمانيا بركلات الترجيح 2 - 4 ، بعد أن انتهى الوقتان الاصلي والاضافي 1-1. وليس بعيداً من الصدمة الأرجنتينية، فإن الحلم البرازيلي تبخر أيضاً في ربع النهائي بالخسارة أمام فرنسا صفر-1، بعد أداء متواضع ومنتخب مفكك، عجز سحرته عن تشكيل ضغط ملائم لهز شباك الحارس بارتيز، الذي كان احتفل مع زملائه عام 1998 بالفوز عليهم بثلاثة أهداف نظيفة في المباراة النهائية. ولا يقتصر سوء البرازيليين على العقدة الفرنسية التي باتت ماثلة أمامهم في نهائيات كأس العالم 3 هزائم أعوام 1986 و1998 و2006، بل إنهم زحفوا إلى ربع النهائي من دون إقناع على الإطلاق، ولم يقدموا ما يذكر بمستواهم أو إمكاناتهم، إلا القليل ضد اليابان في الدور الأول 4-1، بينما كان فوزهم على كرواتيا 1- صفر واستراليا 2- صفر غير مقنع. وحتى في الدور الثاني، وعلى رغم النتيجة المريحة على غانا 3- صفر، فإن منتخب البرازيل حامل الرقم القياسي بخمسة ألقاب لم يقدم مستوى يرفع من حظوظه في إحراز اللقب. وبدا لافتاً غياب خطورة صانع العاب برشلونة الاسباني رونالدينيو، الحاصل على جائزة أحسن لاعب في العالم في النسختين الأخيرتين، فكان أشبه بظل اللاعب الذي قاد فريقه إلى لقب بطل الدوري الاسباني وبطل دوري أبطال أوروبا هذا الموسم، فذهبت أحلامه بالتالي ادراج الرياح، عندما أعلن انه"في حال إحرازه مع المنتخب كأس العالم سينهي عاماً رائعاً لا يمكن تكراره بسهولة". ولا يتحمل رونالدينيو وحده تبعات الخروج، فكاكا وادريانو ورونالدو أيضاً لم يظهروا بمستوياتهم، الأول لعب جيداً في المباراة الأولى فقط، والثاني فقد قدرته على المشاكسة والتسجيل، والثالث كان غير جاهز تماماً للمشاركة، بعد أن غاب نحو شهرين عن الملاعب بسبب الإصابة، ولم تسمح له لياقته البدنية بخوض أكثر من سبعين دقيقة في المباريات الأولى. وما يشفع لرونالدو انه سجل ثلاثة أهداف، وانتزع الرقم القياسي لعدد الأهداف المسجلة في النهائيات من الألماني غيرد مولر 15 للبرازيلي في مقابل 14 للألماني. إسبانيا تمتع وتخرج أمتعت اسبانيا في مباراتيها الأوليين، عندما دكت مرمى أوكرانيا بأربعة أهداف نظيفة، وحولت تأخرها أمام تونس إلى فوز 3-1، قبل أن يمنح مدربها لويس اراغونيس الفرصة للاحتياطيين لخوض المباراة الثالثة ضد السعودية، التي انتهت بفوز ثالث أيضاً بهدف يتيم. وارتفعت أسهم اسبانيا في شكل كبير لإحراز اللقب، بعد أن قدم لاعبوها جملاً تكتيكية جميلة أبرزت إمكاناتهم، خصوصاً المهاجم توريس الذي بدأ بقوة بتسجيله ثلاثة أهداف، قبل ان يصوم عن التهديف بعدها. وكان قدر اسبانيا مواجهة فرنسا في الدور الثاني، وعلى الورق كانت الأفضلية لها، لأن الأخيرة لم تقنع ابداً في الدور الأول، وانتظرت حتى المباراة الأخيرة لتحجز بطاقتها إلى ثمن النهائي، إلا ان الواقع الكروي فرض نفسه، وتوقف مشوار اسبانيا باكراً، فتبخرت الأحلام بإحراز اللقب الأول في تاريخها. المنتخب الهولندي يدخل جميع البطولات التي يشارك فيها مرشحاً للعب دور فيها، لكنه هذه المرة كان عادياً، وافتقد سره المتمثل في الكرة الشاملة التي يغلب عليها الطابع الهجومي، فحاول المدرب والنجم السابق فان باستن الاستمرار حتى الأدوار المتقدمة، لكن النهاية كانت سريعة، وتحديداً في الدور الثاني، بخسارة أمام البرتغال صفر-1 شهدت احداثاً مثيرة، وطُرد فيها لاعبان من كل منتخب. المكسيك قدمت كرة قدم جميلة أيضاً، لكن لاعبيها افتقدوا الخبرة المطلوبة في المضي قدماً إلى الأدوار النهائية، فاكتفوا ببلوغ الدور الثاني قبل ان يخسروا أمام الارجنتين 1-2 بعد التمديد. آسيا فقدت انطلاقتها فقدت الكرة الآسيوية انطلاقتها القوية التي شهدتها نهائيات النسخة الماضية عام 2002، حين بلغت اليابان الدور الثاني للمرة الأولى في تاريخها، وكوريا الجنوبية نصف النهائي، في اهم انجاز آسيوي حتى الآن، قبل ان تحل رابعة بخسارتها أمام تركيا. وفشلت المنتخبات الاربعة التي تأهلت عبر التصفيات الآسيوية، وهي فضلاً عن اليابان كوريا الجنوبية والسعودية وايران، في اجتياز عتبة الدور الأول، مع ان كوريا كانت الاقرب إلى حجز احدى البطاقات إلى ثمن النهائي، قبل خسارتها أمام سويسرا صفر-2 في الجولة الاخيرة. وكان كل من منتخبي اليابان وكوريا بالذات يريد التأكيد على ان ما حققه في النهائيات الماضية على ارضه لم يكن صدفة، فجاء"مونديال"ألمانيا ليكشف تواضع المنتخبات، وحاجة لاعبيها إلى مزيد من الخبرة. كما ان النتائج التي حققها المنتخب السعودي تعادل مع تونس 2-2 وخسر أمام أوكرانيا صفر-4 واسبانيا صفر-1 فتحت الابواب أمام بحث مسألة الاحتراف، نظراً إلى فارق الامكانات بين اللاعبين السعوديين ولاعبي المنتخبات الاخرى. وحدها استراليا التي تأهلت على حساب الأوروغواي بعد الملحق الاميركي الجنوبي - الأوقياني، والتي ستخوض التصفيات المقبلة في القارة الآسيوية بعد انضمامها اليها، بلغت الدور الثاني، قبل ان تخسر بصعوبة بالغة أمام ايطاليا صفر-1 في الوقت بدل الضائع. مواهب في حاجة إلى تنظيم لم تغب المواهب الأفريقية كالعادة عن نهائيات"المونديال"، لكن معظمها كان يشارك في هذا المحفل العالمي للمرة الأولى في مسيرته، وافتقد الخبرة المطلوبة في التعامل مع مباريات بهذا المستوى. وعلى رغم تأهل منتخبات غانا وساحل العاج وتوغو وانغولا إلى النهائيات للمرة الأولى، فإنها قدمت عروضاً أحرجت فيها منافسيها في كثير من الاحيان، وخير مثال على ذلك مباراة ساحل العاج مع الارجنتين 1-2، وتوغو مع فرنسا صفر-2، لكن غانا فقط تابعت طريقها إلى الدور الثاني ممثلة وحيدة فيه للكرة الافريقية، فكان قدرها مواجهة البرازيل، حيث خسرت بثلاثة أهداف نظيفة، مع انها كانت قادرة على تسجيل اكثر من هدف. تونس ممثلة العرب في القارة الأفريقية لم تقنع كثيراً، فلعبت جيدا في الشوط الأول أمام السعودية، قبل ان تسقط أمام اسبانيا 1 - 3 ، وأوكرانيا صفر-1، لكنها تلقت ضربة موجعة بإصابة مهاجمها دوس سانتوس قبيل النهائيات، فغاب بالتالي عن المباريات الثلاث. سيطرة أوروبية سيطرت الكرة الأوروبية على النهائيات الحالية، حيث بلغت اربعة من منتخباتها الدور نصف النهائي، هي ألمانيا وايطالياوفرنسا والبرتغال، على رغم التفاوت في مشوار كل منها. وكانت نتائج ايطالياوفرنسا عادية في الدور الأول، لكنهما رفعتا مستوى التحدي بدءاً من الدور الثاني، ونجحتا في حجز بطاقتيهما إلى مباراة القمة، بعد ان اقصت الأولى اصحاب الارض بهدفين في اقل من دقيقتين في نهاية الشوط الاضافي الثاني، وتخطت الثانية البرتغال بهدف من ركلة جزاء ترجمها نجمها زين الدين زيدان. وكانت ألمانيا والبرتغال حققتا نتائج لافتة في الدور الأول بثلاثة انتصارات لكل منهما، ثم تغلبت الأولى على السويد في الثاني وأقصت الأرجنتين في ربع النهائي، أما الثانية فخاضت معركة حامية الوطيس في ثمن النهائي انتصرت فيها على هولندا 1- صفر. وشهدت المباراة المذكورة رقماً قياسياً في عدد البطاقات في مباراة واحدة خلال نهائيات كأس العالم، بلغ 20 بطاقة. وامتلكت منتخبات ألمانيا وفرنساوايطاليا خبرة اكثر من منتخب البرتغال، فاعتمدت على الواقعية بوجود عدد لا بأس به من النجوم في صفوف كل منها، كما ركزت في شكل اساسي على خطي الدفاع والوسط، وإن مالت ألمانيا إلى الناحية الهجومية اكثر في بعض المباريات. اما المنتخب البرتغالي الذي يميل اداؤه إلى الاستعراض اكثر، مع نزعة هجومية وتمريرات سريعة تعجب عشاق كرة القدم، فقدم عروضاً جميلة، لكنه افتقد وجود الهداف الذي يعرف الطريق جيداً إلى المرمى، وبان ذلك واضحاً ضد فرنسا في نصف النهائي. التحكيم بين الثناء واللوم لم يشهد"مونديال"2006 مجازر تحكيمية بما للكلمة من معنى، كما حصل في"مونديال"2002، وتحديداً في مباراتي كوريا الجنوبيةواسبانيا، وكوريا الجنوبيةوايطاليا، الا ان السرعة في اشهار البطاقات كانت علامة فارقة يجب درسها، واستخلاص العبر منها للمناسبات المقبلة.