عندما هاجمت الولاياتالمتحدة الاميركية افغانستان واجتاحتها قبل أكثر من أربع سنوات على خلفية الانتقام لواقعة 11 ايلول سبتمبر وتدمير"القاعدة"المتهمة بالتخطيط لها والقضاء على حكومة"طالبان"الداعمة والحاضنة لها، قرأ بعض العارفين ببعض خفايا الاستراتيجية الاميركية العالمية الشاملة ذلك الحدث يومها على انه أبعد من مجرد انتقام لمعركة مهما بدت يومها"مشروعة"ومبررة! ووضعوها في إطار الحرب الاساسية التي كانت تخوضها الولاياتالمتحدة ضد أقطاب الشرق المتنامية قوتهم أو التي يعد لإحيائها بعد فترة ضعف وهوان. وقتها كتبت ملخصاً الخطوة الاميركية على انها انزال أميركي خلف خطوط الصينوروسياوالهند وايران في اطار معركة السيطرة على الثروات والموارد الغنية لبحر قزوين والاستعداد لمنع اكتمال قوة المارد الصيني الناهض، وتشديد الحصار المضروب على روسيا لمنعها من استعادة دورها كقوة عظمى دولية فاعلة واحتواء كل من الهند وايران كقوتين اقليميتين فاعلتين في المعادلة الدولية. اليوم وبعد كل ما جرى ويجري في نهر تلك الاحداث ولدى مطالعة الوقائع المتسارعة التي تجري في الحديقة الخلفية لكل تلك القوى الدولية والاقليمية المشار اليها نستطيع التسجيل بأن ثمة بوادر فشل اميركي شبه محتوم في تلك الاستراتيجية. لا بل ان التطورات السياسية والتحولات في المواقف الاستراتيجية لتلك الدول الاربع تكاد تجعل من هذه الدول مجتمعة"شبه حلف"ولو غير معلن ضد واشنطن. فهم اليوم أركان منظمة شانغهاي للتعاون الآسيوي التي تستعد لاجتماعات قمة فريدة من نوعها سيكون على جدول أعمالها الرئيسي من جملة ما سيكون كيفية استيعاب هذا الفشل الاستراتيجي لواشنطن لمصلحة قيام تجمع عالمي بديل للتجمع الدولي التقليدي الذي باتت تسيطر عليه العاصمة الاميركية تحت عنوان"مجلس الأمن الدولي"! وإذا اضفنا التعثر الاميركي المتنامي في العراق والذي بدأ يلامس نقطة الفشل يمكننا ان نقول ولو مع بعض التحفظ بأن ثمة"انقلاباً ما"يلوح في افق العلاقات الدولية قد تكون بعض نتائجه فقدان تلك"الهالة"العالمية التي ظلت تتمتع بها الولاياتالمتحدة تحت مظلة الاممالمتحدة ومجلس الأمن الدولي باعتبارهما من افرازات المنتصرين في الحرب العالمية الثانية لصالح"مظلات"دولية متعددة في طريقها الى الظهور ليست"شانغهاي"إلا مقدمة أولية لها، وقد تكون أميركا اللاتينية، الحبلى هي الأخرى بالتحولات الاستراتيجية، المحطة الثانية التي سيعلن منها شهادة وفاة القوة الامبراطورية الاميركية! ان مراوحة الاتحاد الأوروبي مكانه في مواجهة الملف النووي الايراني و"كسله"وتردده وفقدانه لأي حيوية فاعلة في هذا المجال وظهوره بمظهر التابع لما تمليه عليه الولاياتالمتحدة قد يكون هو الآخر من مظاهر العجز الأميركي أكثر مما يكون من مظاهر العجر الأوروبي وحده. وإذا انضمت الادارة الاميركية - سواء كانت مختارة أم مجبرة - الى حوار الاوروبيين مع طهران كما يظهر من المؤشرات والدلائل المتاحة، فإن ذلك سيؤكد هذا المعنى. ان شبه الاجماع المتنامي في افغانستان على عجز الحاملين للمشروع الاميركي هناك عن توفير الأمن والاستقرار اللازمين وكذلك الأمر على الساحة العراقية، يدفع عملياً باتجاه ذلك"الانقلاب"المتوقع في موازين القوى العالمية ما يجعله"خريطة طريق"الخلاص من الوضع العالمي المضطرب والمحاصر بين فكي كماشة بن لادن - بوش! وقد يكون ما يحصل في افغانستانوالعراق من مخاضات بمثابة الولادة القيصرية المفروضة الممهدة لظهور"القوة الثالثة"العالمية التي أعلنت مبكراً مواقفها ولو بشكل منفرد بأن نظرية"كل من هو ليس معنا فهو ضدنا"انما هي نظرية خاطئة ومآلها الفشل لا محالة! ان عالم العنف والاستئصال والنفي في التعامل مع الآخر يقترب من نهاياته رغم كونه اليوم يعتلي القمم ويعانق أوج الصعود! ان ظهور مقاومة وطنية افغانية للمشروع الأميركي - الأطلسي هناك ولو بدا وكأنه صنو لطالبان فهو من نتائج تلك السياسة الأميركية الأحادية والأنانية القاتلة. كذلك الأمر في الحالة العراقية فرغم كل مظاهر العنف الكريهة وكل مظاهر الفلتان الأمني والاضطراب من جهة وكل مظاهر التحولات السياسية التي تراهن عليها الادارة الأميركية من جهة أخرى كمظهر من مظاهر نجاحها في العراق، الا ان جوف المجتمع العراقي يحمل في جعبته وفي احشائه مشروع ممانعة وطنية عريضاً يضم كل أطياف الشعب العراقي المستباح يبدو انه يستعد للتبلور والظهور في الأفق المنظور بما يؤمل بنهاية تراجيدية لمشروع الاقتتال والعنف الأعمى والاستئصال والاستئصال المضاد لصالح ممانعة عراقية ومقاومة وطنية شاملة تبني العراق على أسس ومبادئ جديدة. يبقى على النخب المترددة أو المنبهرة تجاه ما يجري ان تستوعب هذا الدرس الاستراتيجي قبل فوات الاوان وتنضم مبكراً الى هوية أمتها التاريخية. فاللحظة الراهنة هي لحظة مخاض تحاول فيها شعوب المنطقة المضطهدة من استقطاب العنف الاستعماري والعنف الارهابي، ان تخرج الى عالم مقاوم وممانع يرفض الهيمنة والتبعية كما يرفض التخلف والاستبداد والظلامية محاولاً الاقتراب من لحظة تطابق المطالبات التاريخية للناس وهي الحرية والاستقلال والتقدم مع الهوية التاريخية لهذه الأمة وهي الهوية الدينية العقلانية والمعتدلة. انها لحظة الأمل المشوبة بالرعب حيث نشهد عالماً ينهار وعالماً ينهض فيما يشبه"التسونامي"المتعدد المستويات. * كاتب متخصص في الشؤون الايرانية.