قرار رئيس السلطة الفلسطينية استفتاء أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس وغزة، على القضايا المختلف عليها داخل الصف الفلسطيني، يحمل الكثير من الدلالات والمؤشرات. أولها أن فصل الديموقراطية الفلسطينية الذي تجلى في الانتخابات التشريعية كانون الثاني - يناير 2006 وصل باكراً الى طريق مسدود. وبعض التنظيرات التي راهنت على"مساكنة"بين مؤسستي الرئاسة والحكومة في السلطة الفلسطينية، لم يكن يستند الى تقديرات واقعية، لشدة تناقض برنامجي المؤسستين الذي يعكس تناقض برنامجي "فتح" - السلطة وحركة"حماس". مؤشر آخر أن مؤسسة الرئاسة أخطأت في تقدير حجم الضغوط الدولية التي ستمارس عليها بعد صعود"حماس"، ووصولها الى الغالبية في المجلس التشريعي، وتشكيلها أول حكومة فتحاوية، كما فشل رهان رئاسة السلطة على استغلال صعود"حماس"لتحسين مواقفها بانتزاع تأييد دولي يضغط على تل أبيب وواشنطن، لتقديم تنازلات تعزز مواقع تيار رئاسة السلطة الذي يقدم نفسه كتيار واقعي ومعتدل، ملتزم خطة"خريطة الطريق"ومتابعة مسيرة أوسلو. والمؤشر الرابع ان نتائج الانتخابات أدت الى تعميق صراع الرأسين بين حركتي"فتح"و"حماس"، بل ونقلته الى طور أعلى بتحوله الى صراع للاستحواذ على السلطة من داخلها، بعدما اتخذ لسنوات طويلة شكل صراع بين"سلطة ومعارضة". وهذه النقلة النوعية جعلت"حماس"أحد طرفي الصراع، وليس مجرد طرف رئيس في المعارضة، كان يرفض الى وقت قريب دخول مؤسسات السلطة، ويحصر تعامله معها واعترافه بها بالحدود الدنيا. المؤشر الخامس دعوة الرئيس محمود عباس الى الاستفتاء على وثيقة"الوفاق الوطني"المقدمة من قادة الحركة الاسيرة فتح، حماس، الديموقراطية، الشعبية، الجهاد. ويجب الا ينظر اليها من زاوية كونها تعبيراً عن قوة أو ضعف، بل كدليل على استشعار عمق المأزق وانعدام الخيارات الاخرى، انطلاقاً من تقدير ان استمرار لعبة شد الحبل بين الرئاسة وحكومة"حماس"ومكونات القوى الديموقراطية لن يكون محسوماً في مصلحته، والاستفتاء وحده قادر على اخراج كل الفصائل والقوى من المأزق بأقل الخسائر، مستنداً في حساباته الى توظيف تأثير استمرار الحصار المالي والسياسي لحكومة"حماس". واضح أن عباس يدرك ان الاستفتاء سلاح ذو حدين، وأياً تكن نتائجه ستقلص هامش مناوراته الى حدود دنيا، فالتصويت ب"نعم"سيقيد"حماس"وفي الوقت ذاته حركة عباس ببرنامج سقفه أعلى من سقف أوسلو الذي كان"أبو مازن"أحد مهندسيه الرئيسين. كما أن هذا البرنامج يشترط اعادة الاعتبار الى المكانة القيادية التمثيلية لمنظمة التحرير، وإعادة بناء مؤسساتها على أساس تعددي وديموقراطي انتخابي، وفق قانون التمثيل النسبي الكامل، ورفض الحلول الجزئية التي انطلقت منذ اتفاق أوسلو 1993، ورفض الخطوات الاسرائيلية المنفردة والتمسك بحل شامل على اساس قرارات الشرعية الدولية. والتصويت ب"لا"وإن كان مستبعداً جداً، بل شبه مستحيل، سيوجه ضربة قاصمة لبرنامج كل فصائل منظمة التحرير. وفي حسابات الربح والخسارة، لعل المستفيد الأكبر من استفتاء كهذا هو الشعب أولاً، وفصائل المنظمة الديموقراطية والوطنية، والاتجاه"الفتحاوي"المعارض سياسات اوسلو. لكن التزام عباس وقيادة"حماس"نتائج الاستفتاء مشكوك فيه، ومن شبه الأكيد انه سيفتح صفحة جديدة من الصراع. من هنا يأتي صواب الطرح القائل بضرورة اعطاء الحوار مهلة أطول، في محاولة لحل القضايا المختلف عليها، واذا لم يصل الى القواسم الوطنية المشتركة على أساس وثيقة الوفاق الوطني، يأتي الاستفتاء بعد مساحة زمنية واقعية. فالقضايا المستفتى عليها لا تمس خلافاً طارئاً وعارضاً، بل مجموعة معضلات سياسية وبرنامجية تدحرجت ككرة ثلج، وتضخمت خلال رحلة اوسلو، ما أدى الى انسداد الأفق أمام النظام السياسي الفلسطيني. وهناك أسئلة ستبقى معلقة، ولن يستطيع الاستفتاء أن يجيب عنها، منها على سبيل المثال، هل المقصود بطرح القضايا الخلافية على الاستفتاء، مجرد ممر اجباري للمناورة من جانب رئاسة السلطة بعدما تقطعت بها السبل؟ وهدفها محاصرة حكومة"حماس"كمقدمة لاسقاطها، أم انقلاب حقيقي في مفاهيم رئاسة السلطة مبني على استخلاص الدروس والعبر من وقائع الاعوام العشرة الاخيرة التي هي عمر السلطة! وهل ستقر الرئاسة بأن الاستفتاء يشمل ضمناً نقض الأسس التي قام بها اتفاق أوسلو؟ وهل التركيز على الخلاف السياسي حول دور منظمة التحرير ومرجعيتها، وعناصر برنامج القاسم الوطني، يلغي حقيقة أن تمسك"فتح"بالسلطة مكون رئيس من مكونات الأزمة، ويثلم التجربة الديموقراطية الفلسطينية؟ وأين رأي فلسطينيي الشتات من الأزمة وحقهم في المشاركة في تقرير مصيرهم ومصير قضية شعبهم ككل، بخاصة أن"أبو مازن"يجاهر بعدم امكان حق العودة وواقعيته؟ بعدما اشتد الداء في النظام السياسي الفلسطيني، يأتي الاستفتاء تطبيقاً للمثل القائل"آخر العلاج الكي"، مع ملاحظة أن معالجة أصل الداء غير ممكنة سوى بالالتزام بعلاج ممكن الداء، ألا وهو غياب دور المرجعية القيادية والتمثيلية الموحدة للفلسطينيين في الوطن والشتات، وبالتالي غياب البرنامج الوطني الواحد والموحد، المبني على القواسم الوطنية المشتركة. ويبقى السؤال الأهم: ماذا بعد الاستفتاء؟ خطير أن تعتبر رئاسة السلطة نجاح الوثيقة انتصاراً لنهجها وتفسيراتها الخاصة لدور منظمة التحرير ومرجعيتها وبرنامج القاسم الوطني والتزاماتها المترتبة على اتفاقات أوسلو غير المجمع عليها وطنياً وشعبياً. واذا كانت النتيجة سلبية - وإن كان هذا مستبعداً - من الخطير ايضاً أن تعتبر"حماس"ذلك انتصاراً لخطها وبرنامجها المتشدد الذي ينقض برنامج المنظمة. والاخطر من كل هذا وذاك، عدم حسم الصراع في وقت يدب على الارض برنامج حزب"كاديما"لتثبيت حدود توسعية جديدة لاسرائيل. ان الخروج من حال الصراع على السلطة بين مؤسساتها الثلاث الرئاسة، الحكومة، المجلس التشريعي قد يكون غير ممكن من خلال الاستفتاء، لأن احتمال الفشل يبقى قائماً، بفعل التفسير أو التأويل الذي أدمن عليه بعضهم لافراغ الاتفاقات والبرامج الوطنية من مضمونها، وتجييرها لمصلحة سياسات ورؤى خاصة. رغم هذا، قد يكون الاستفتاء آخر الخيارات للخروج من نفق الصراع القائم على الارض، نحو مرحلة جديدة من الصراع بأسس وشروط وأدوات جديدة، تكون فيها الخيارات مدعومة بإرادة شعبية مع التشديد على ان محور الصراع سيبقى يدور حول منظمة التحرير وبرنامج القاسم الوطني المشترك، الغائب الاكبر منذ اوسلو. فالاستفتاء سيعطي مؤشراً مهماً، والالتزام بنتائجه هو عنوان المرحلة المقبلة من الصراع بين مكونات النظام السياسي الفلسطيني. * كاتب فلسطيني - دمشق