تتلاقى شعارات وبرامج كل القوى السياسية الفلسطينية على أن إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية هي المدخل الإجباري لإيجاد مخارج وحلول وطنية للأزمة التي تعصف بالأوضاع الفلسطينية، حتى ليخال المرء أن إعادة البناء المنشودة حتى وإن جاءت بشعار مجرد، هي الوصفة السحرية للخلافات الفلسطينية المتفاقمة. ولكن بقليل من التمحيص، وعلى الرغم من صواب الشعار، سنجد أن مطلب إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية يتحول واقعياً إلى أزمة قائمة بحد ذاتها، بسبب غياب الحدود الدنيا من الفهم الموحد لمفهوم إعادة البناء ومضمونه وأسسه. وهذا ما يمكن تلمسه بوضوح من المواقف المعلنة للقوى والمرجعيات السياسية الفلسطينية المختلفة. فمؤسسة رئاسة السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، الذي هو في الوقت ذاته رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، تطرح تفعيل مؤسسات المنظمة كمرادف لمفهوم إعادة البناء، وهذا يحمل في طياته ضمناً الاصرار على أن إعادة البناء يجب أن تنطلق من بقاء حركة"فتح"مهيمنة على مؤسسات المنظمة، ويرافق ذلك اعتبار أن الاتفاقيات الموقعة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية شكلياً وقعتها منظمة التحرير، والتعديلات التي تم توقيعها على الميثاق الوطني الفلسطيني أقرت سنة 1998 بمثابة مسلمات غير مطروحة على طاولة الحوار، لأن الاتفاقيات تحمل التزامات دولية تقع على عاتق منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، اما التعديلات فجاءت بالضرورة مكملة لهذه الالتزامات. وتعتبر قيادة السلطة الفلسطينية أن مبادئ اتفاقيات أوسلو تتلاقى في جوهرها مع البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، كما أن تطبيقات أوسلو أنتجت على الأرض سلطة وطنية فلسطينية، أعادت الفلسطينيين للمرة الأولى إلى الجغرافيا السياسية للمنطقة. اما القوى الديموقراطية واليسارية الفلسطينية التي تأتلف مع"فتح"في عضوية منظمة التحرير الفلسطينية منذ إعادة التأسيس الثانية في العام 1968 دخول الفصائل إلى المنظمة وتسلمها زمام القيادة فيها، فترى أن تفعيل المنظمة غير ممكن في ظل الواقع الراهن لمؤسسات المنظمة، وبالتالي لا بد من إجراء مراجعة سياسية وتنظيمية شاملة، ترتكز عليها عملية إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديموقراطية انتخابية، وتعتبر أغلبية الفصائل والقوى الديموقراطية واليسارية التعديلات التي وقعت على الميثاق الوطني الفلسطيني غير دستورية، ولا تحظى بالإجماع الوطني، ومازالت أغلبية هذه الفصائل والقوى تواصل رفضها لاتفاقيات أوسلو وتطبيقاتها، وتعتبرها خروجاً على البرنامج الوطني لمنظمة التحرير، رغم إقرارها بأن هذه الاتفاقيات وتطبيقاتها خلقت وقائع على الأرض لا يمكن تجاهلها، لذلك تدعو إلى تجاوزها بالدخول في مفاوضات شاملة على أساس قرارات الشرعية الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية. حركتا"حماس"و"الجهاد الإسلامي"اللتان ما تزالان خارج أطر ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، تريان بأن عملية إعادة بناء مؤسسات المنظمة يجب أن تستند إلى الواقع الجديد في بنية النظام السياسي الفلسطيني، على ضوء تنامي دور حركات الإسلام السياسي، وتراجع دور قوى وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، كما عكسته نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي جرت في الخامس والعشرين من كانون الثاني يناير 2006، وما يمليه ذلك من ضرورة إحداث تغييرات رئيسية على برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، ليتم تضمينها الرؤية السياسية لحركتي"حماس"و"الجهاد الإسلامي"، ويوضع هذا كشرط للتسليم بالدور القيادي والتمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، بالإضافة إلى شرط بديهي يخص حجم التمثيل في الهيئات القيادية للمنظمة ومؤسساتها. الواضح للعيان من قراءة المعطيات والحقائق السابقة أن التوافق الذي وقع بين الفصائل الفلسطينية في إعلان القاهرة 17/3/2005 على إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، كمدخل لاستنهاض الحالة الفلسطينية، على أهميته جاء مبهماً ومغرقاً في العمومية، وحمالاً للأوجه، ودليل ذلك القراءات المتناقضة لمفهوم إعادة البناء المنشودة. والقوى التي ناضلت من أجله كانت تدرك منذ البداية هذه الحقيقة، وأن المعركة الرئيسية والصعبة ستكون في توحيد المفاهيم لتلتقي عند مفهوم مشترك لإعادة البناء، ولهذا ضغطت من أجل التسريع في عقد اجتماع اللجنة الفلسطينية العليا المكلفة بترجمة قرارات إعلان القاهرة، ووضع أسس إعادة البناء، لكن رئاسة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية أبقت هذه القرارات معلقة على شجرة التسويف والمماطلة، حتى داهمها الواقع الجديد الذي أفرزته الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة، وزاد بشكل غير مسبوق المصاعب أمام مسعى توحيد الفهم لعملية إعادة البناء. رئاسة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية سارعت ومنذ اللحظة الأولى لزلزال الانتخابات التشريعية الفلسطينية إلى مراجعة شكلية لسياساتها حيال منظمة التحرير الفلسطينية، وراح خطابها السياسي يركز على الدور القيادي والتمثيلي والمرجعي لمنظمة التحرير الفلسطينية، في مواجهة خطاب حركة"حماس"الرافض للإقرار بهذا الدور، وإن تطور هذا الخطاب في سياق التحديات التي واجهت"حماس"بعد تسلمها لرئاسة حكومة السلطة الفلسطينية، ليفرق بين منظمة التحرير بما تمثله من كيانية موحدة للفلسطينيين في الوطن والشتات وهذا تقر به"حماس"، وبين دورها التمثيلي الجامع الذي ترفضه"حماس"، تحت حجة أنها غير ممثلة في منظمة التحرير، وفي أكثر من تصريح لقيادي في الحركة تم التركيز على أن حركة"حماس"تعتبر دخولها في أطر المنظمة هدفاً استراتيجياً، وأن رئاسة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية هي التي تعطل ذلك. لكن من حيث الجوهر تلتقي رؤية"حماس"حول إعادة بناء منظمة التحرير مع رؤية رئاسة السلطة الفلسطينية في الانطلاق من زاوية المصالح الذاتية الضيقة، فرئاسة السلطة الفلسطينية تحاول أن تستأثر بالصلاحيات التي صودرت من منظمة التحرير في مواجهة حكومة"حماس"، في حين تحاول"حماس"مقاومة هذا المسعى لإبقاء الجزء الأكبر من الصلاحيات المصادرة بيد رئيس الحكومة ووزرائها، ويزيد في الطين بلة أن حكومة"حماس"لا تقر ولو نظرياً بالمرجعية القيادية لمنظمة التحرير الفلسطينية. إن المخرج الوطني من الأزمة الشاملة التي تعصف بالحالة الفلسطينية، غير ممكن إلا بحل وطني شامل، يعيد توحيد أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، ويتكامل مع نضال أبناء الشعب الفلسطيني في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948، وهذا لا يحققه التوافق على برنامج حكومة السلطة الفلسطينية، الذي يندرج في إطار الحل، ولا يشكل في أي حال من الأحوال حلاً شاملاً، فحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني لا يمكن أن يتحقق إلا بإجماع إرادة مكونات الشعب الفلسطيني في الشتات والضفة والقدس وغزة والمناطق المحتلة عام 1948، والسلطة الفلسطينية تمثل 34 في المئة فقط من مجموع الشعب الفلسطيني، في حين أن 66 في المئة من أبناء الشعب الفلسطيني محرومون من حقهم في التمثيل، واختيار قياداتهم، ويُغيب دورهم. كما أن قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقدس وغزة لا يحقق كل عناصر المشروع التحرري الفلسطيني، الذي يندرج ضمنه حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وحقوق فلسطينيي مناطق 1948. مما سبق نستنتج أن المطلوب إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس جديدة، لا تنقض البرنامج الوطني للمنظمة، بل تعيد تصويب مسارها ودورها، عبر استكمال انتخاب أعضاء المجلسين الوطني والمركزي وانتخاب لجنة تنفيذية جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية. فبرنامج منظمة التحرير لم يستنفد أغراضه بعد، ويمثل بحق قاسماً وطنياً مشتركاً، وموحداً لنضال أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. وهنا يجب عدم الخلط بين مفهومي إعادة البناء والتفعيل، فالواقع القائم في مؤسسات المنظمة هو ما أوصل الحالة الفلسطينية إلى التردي والنزاع والشرذمة، والتفعيل واستعادة الدور سيكون تحصيل حاصل لعملية إعادة البناء، إذا تمت على أسس موضوعية تراعي المصالح الوطنية العليا والمشترك الوطني الفلسطيني. * كاتب فلسطيني.