على رغم قطع أشواط بالغة الأهمية وانجاز العديد من الخطوات الملموسة على طريق إرساء التحول الديموقراطي في العراق وآخرها إقرار الدستور العراقي الدائم بأغلبية 78 في المئة في الاستفتاء الشعبي العام، فضلاً عن المشاركة الشعبية الواسعة سنة وشيعة وأكراداً في الانتخابات العامة الأخيرة التي انبثقت عنها حكومة وحدة وطنية عريضة تضم المكونات الرئيسية الثلاثة للشعب العراقي، إلا أن المنظرين البعثيين ما زالوا مصرين على إفشال العملية السياسية الديموقراطية في العراق الجديد عبر عمليات العنف والإرهاب الوحشي التي تقوم بها"المقاومة"البائسة المكونة من بقايا البعث والجماعات الأصولية التكفيرية. وتعويلا على هذه"المقاومة"واستقواء بها تجزم البقية الباقية من منظري الايديولوجية البعثية باستحالة تحقيق التحول الديموقراطي الموعود في العراق، وهم لا يتوانون عن رفد"المقاومة"التي تمعن في قتل العراقيين وتقطيع أجساد أطفالهم ونسائهم وكهولهم بنظريات وطروحات لا تقل عبثية عن ممارسات هذه"المقاومة"في القتل والتخريب والتدمير. ولعل أكثر هذه الطروحات بؤسا هي تلك الاسطوانة المشروخة العزيزة على قلوب العروبيين والتكفيريين التي مفادها أن الديموقراطية بدعة غربية وغريبة لا تصلح لشعوب الشرق ومجتمعاته، في حين أن الهند بلد البليون شرقي هي أكبر ديموقراطية في العالم، فكأن تركيبة شعوب الشرق الوراثية تحتوي بحسب هذا"المنطق"على مضادات للديموقراطية بما تحمله من قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان ولا يخفى ما ينطوي عليه هذا اللغو من استخفاف واحتقار لشعوب بأكملها عربية وغير عربية، وكأن قدر هذه الشعوب أن ترزح لعقود تحت نير التسلط ومصادرة الحرية وعسكرة المجتمع، فالايديولوجيا في استنفار وحرب دائمين ضد كل ما حولها وتسعى إلى نسف كل ما يعترضها أو ما يخيل لها أنه يعترض مشروعها. بعبارة أخرى فإن الفرد لا يشكل في نظر هذه الايديولوجية سوى وقود للحروب والمعارك المتناسلة التي هي في غالب الأحيان معارك دون كيشوتية. انه مجرد رقم في المجموع أوبالأحرى في القطيع الايديولوجي. ان الديموقراطيات الغربية هي حصيلة تجربة وتطور تاريخيين وهذه الديموقراطيات لم تستقر على شكلها الراهن إلا بعد مخاض عسير وبعد قرون من الصراعات والحروب والإخفاقات والنجاحات وهي لم تترسخ إلا بعد ما أخذت المجتمعات الغربية بالديموقراطية كمنظومة قيمية متكاملة. فالديموقراطية ليست مجرد آلية انتخابية ولا مجرد صناديق اقتراع، إنما هي بالأساس ثقافة والتزام بقيم التسامح والتعايش والتعددية وقبول الآخر الذي هو مختلف بالضرورة، والديموقراطية بهذا المعنى ليست وصفة سحرية جاهزة بل هي عملية تراكمية تدرجية وهي تجربة وصيرورة تاريخية قد تختلف مساراتها ومقارباتها من مجتمع إلى آخر. وعليه لا بد لمجتمعاتنا من ولوج العصر عبر بوابته الحصرية وهي البوابة الديموقراطية. فما لم تشرع هذه المجتمعات في تبني وممارسة الديموقراطية لن تتمكن من خلق وعي وثقافة ديموقراطيين ومن تأسيس تقليد ديموقراطي. فكي تكرس الديموقراطية في مجتمع ما لا بد لهذا المجتمع من ممارستها، إذ أن تطبيق الديموقراطية هو في النهاية ما يرسخها ويجذرها في البنية الاجتماعية وفي أي اجتماع بشري شرقيا كان أم غربيا، وليس كما يدعي البعض من أن الممارسة الديموقراطية تقتضي أرضية ديموقراطية فأصحاب هذا الطرح يضعون العربة أمام الحصان. إن الديموقراطية ليست يوتوبيا ايديولوجية بل هي بكل بساطة أنجع صيغ وأشكال الحكم التي أتت بها وخلصت إليها نظريات الفكر السياسي لا سيما لدى هوبز، لوك، مونتسيكيو، روسو، دي توكفيل وغيرهم من منظري الديموقراطية وواضعي أسسها. وخير شاهد على نجاعة النظام الديموقراطي هو النموذج الغربي الذي يشكل مثالاً في التطور والازدهار وسيادة القانون وفصل السلطات وفصل الدين عن الدولة ودينامية المجتمع المدني وحيويته وقدسية مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان والجماعات. وعلى أية حال فالديموقراطية كما قال تشرشل ذات مرة هي أقل أنظمة الحكم سوءاً. اما أن تبقى مجتمعاتنا غارقة في مستنقعات الاستبداد والتخلف والعسكريتاريا من دون أي محاولة للحاق بالركب الديموقراطي الذي سبقتها إليه شعوب ومجتمعات لا تفوقها تطوراً سياسياً واجتماعياً، عندها فقط تصدق تنظيرات وادعاءات البعثيين ومن شاكلهم بأن الديموقراطية لا تصلح لهذه الشعوب والمجتمعات غيرالمؤهلة لها وغير الجديرة بها. وهذا بطبيعة الحال استنتاج افتراضي حتى إشعار آخر نأمل ألا يكون قريبا. ولا بد هنا من الإشارة إلى الاستثناء الكردي المتمثل في التجربة الواعدة في كردستان العراق التي تنحو يوما بعد يوم نحو المزيد من الاستقرار الكياني من خلال تثبيت الشرعية القانونية - الدستورية لإقليم كردستان في الدستور العراقي الدائم وعبر الدستور الخاص بإقليم كردستان العراق الذي هو الآن قيد الإعداد والإنجاز. وأخشى ما يخشاه المرء هو أن تكون التجربة الديموقراطية في كردستان العراق هي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة الاستبدادية بمختلف تفرعاتها الأوتوقراطية في العهد الملكي والعسكريتارية في العهدين القاسمي والعارفي والديكتاتورية الفردية في العهد البعثي الصدامي والثيوقراطية التي أخذت تطل برأسها في العراق والمنطقة تالياً. * كاتب في الشؤون الكردية