الغالبية العربية، وفي مقدمها نخب السياسة والثقافة، تتفق على نحو غير ملتبس على أن وضع كردستان العراق هو"تعرفة"إسرائيلية ضد العراق"العربي"، وترى في تأصيل العنف الدموي صفة المقاومة الوطنية والأصالة، لكنها لا ترى في تطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في كردستان إلاّ بوادر أولية لسيطرة إسرائيل على العراق. بعد زيارته إلى كردستان مع وفد من السنة للتشاور مع القيادة الكردية حول التعديلات المفترضة على الدستور العراقي، قال رئيس"مجلس الحوار الوطني"صالح المطلك:"القادة العراقيون والرئيس جلال طالباني، الذين اتخذوا من الدول العربية مركزاً لتنسيق الجهود مع الاميركيين لإسقاط نظام صدام حسين وتآمروا على العراق يدخلون الآن في سجال سياسي مع العرب". وزاد:"العرب السنّة والشيعة يؤيدون إقامة أوثق العلاقات مع العالم العربي، ونحن نؤمن بأن العرب هم العمق الاستراتيجي المصيري، أما الأكراد والشيعة الصفوية، فهما ضد العرب وضد انتماء العراقيين إلى العروبة". وحذر من تحول إقليم كردستان إلى إسرائيل ثانية في المنطقة، ملاحظاً أن"الصهيونية تتغلغل في كردستان اقتصادياً واستخباراتياً في الوقت الحاضر، والكل يتفرج". وزاد ان"الخطة الإسرائيلية - الاميركية في العراق اتضح القليل من معالمها الآن، لكن المستقبل يحمل ما هو خطير وفي المقدمة دخول إسرائيل شريكاً قوياً للدول الإقليمية". واعتبر ان"التآمر على الحكم المركزي في البلاد هدفه تمكين هذه الخطة الإسرائيلية - الاميركية على الأرض"باسل محمد،"الحياة"پ07/09/05. عبر السيد المطلك في كلامه عن رأي الغالبية، ونفض الغبار عن مشروع الوطنية المفترض لعراق ما بعد صدام، فاتهام الأكراد بالعلاقة مع إسرائيل بعدما كان سجالاً في الأوساط العربية القومية، تحول الآن إلى الأوساط العراقية"السنية"واصبحت فكرة صَهيَنةُ الأكراد مقولة عربية عامة، لها رواجها السياسي. وهذا الاستحواذ القومي على الحياة السياسية في البلاد، والذي يريد تخوين الجميع، إنما يراد به"تعريب"المشكلة العراقية من خلال شعارات، تستعير مصادرها الايديولوجية من تراث شعبوي. فالتجربة الكردية في الإدارة والحكم خلال هذه الفترة الأخيرة، والتي - على رغم انتكاستها الداخلية في العقد الماضي - هي التجربة الأكثر تقدماً في المنطقة، باعتمادها مبدأ التحديث الاقتصادي والاجتماعي وإعادة اعمار البلاد بإمكانات ذاتية وإبعاد شبح الأُصولية المتطرفة، ناهيك عن هامش واسع من حرية التعبير والرأي والصحافة المستقلة. كل هذه الأُمور التي يفتقدها العالم العربي باستثناء لبنان، المتهم أيضاً، لا تشكل أية أهمية للأوساط القومية العربية. وأضاف السيد المطلك هذه المرة مصطلحاً جديداً إلى القاموس السياسي القومي، وهو التغلغل الإسرائيلي في كردستان"اقتصادياً". حتى الأمس كان"القصد العربي"من الإشارة إلى الدور الإسرائيلي في كردستان يركز على الجانب الاستخباراتي، وكان تقرير الصحافي الأميركي سيمون هيرش في"نيووركر"العام الماضي 2004 حرّض الأوساط العربية مجدداً على الموضوع ذاته. لكن المسألة تتجاوز ذلك هذه المرة وتأخذ طابعاً اقتصادياً، بحسبما يذهب رئيس"مجلس الحوار الوطني"، فالمشهد الاقتصادي المتمثل بعمليات إعادة الأعمار وتنشيط الحركة السياحية والعقارية في كردستان ما هو إلاّ"خراب"تمليه إسرائيل على البلاد في رأيه. أيعقل تحليل كهذا؟ هل يريد السيد المطلك ومعه أصحاب نظريات المقاومة تحويل المدن الكردية إلى خراب، كي تثبت حضورها على خريطة"الوطنية"؟، ثم ما هي الأشياء الملزمة للأكراد في"العراق الجديد"؟ حتى داخل البرلمان العراقي وبرنامج حكومته السياسي، دافع النواب الأكراد عن حقوق المواطنة العراقية وهوية الدولة العصرية أكثر من أي هدف آخر. وحاولت الكتلة الكردستانية في الجمعية الوطنية خلال جميع مداولاتها إبقاء العراق دولة علمانية والوقوف ضد محاولات كتلة الائتلاف العراقي"الشيعي"لتغيير قانون الأحوال المدنية وحقوق الطفولة والأُمومة. والحال هذه، فإن القيادة الكردية هي التي دعت إلى المصالحة الوطنية بين فئات المجتمع العراقي وإعفاء البعثيين الذين لم يرتكبوا جرائم بحق الشعب العراقي من تاريخهم السياسي.ألا تخدم هذه الأهداف البلد أكثر من تطييفه وفق شعارات قروسطية تحرض الجميع ضد الجميع؟ كثيرة هي الدلائل التي تعزز الرغبة الكُردية في إصلاح العراق، كما تم إصلاح كردستان. لكن التُهم كثيرة أيضاً وصفة الصَهيَنَة أصبحت لصيقة بالوعي العروبي اليومي تجاه أي مشروع لا يناسب العصبية القومية. فسؤال مثل مَن يسيطر على العراق،"المقاومة البعثية"أم"الزرقاوية"أم شيوخ هيئة العلماء أم الأئمة؟ ليست له أهمية تذكر أمام عروبة العراق. في كردستان، أمن المواطن قبل كل شيء، وهذا ما يحتاجه العراق قبل كل شيء أيضاً. فلماذا لا يكون هناك"عراق جديد"في كردستان، بدل"إسرائيل جديدة"فيها، ذلك أن هوية البلاد يقررها أمن المواطن وأوضاعه لا الشعارات. كاتب سوري مقيم في كندا.