طريق ترصفها الحجارة. وبيت ريفي جدرانه من طين، جيرانه أشجار كرمة وزيتون وعجوز طاعنة في السبعين تحيك بصنارتها قصة شتاء، كانت بثوبها الأسود الموشى بعبق الذكرى ودفء الرجاء، تجلس وحيدة على أريكة الأمل، رحل الجميع عنها، منهم من تركها عند منتصف طريق، ومنهم ما قبل الوداع... تستفيق مع إشراقات الفجر... تداعب الأمل وترتشف مرارة الوحدة. تخرج من غرفتها لتصافح الشمس وتلتمس النور، تغازل نسيم الصبح وتستعيد ما تبقى من ذكريات، ما همها شيء. بعد أن هادنت الوقت واستسلمت للبقاء، إلا أن تودع وحدتها... من دون عناء. بالأمس كانت قد تجرعت من الحزن ما كاد ليقتلها، فقد رحل عنها ابنها الوحيد، ثم ما لبثت أن استفاقت لتجد أن زوجها قد رحل في جنح الليل، فوقعت رهينة الوحدة، أسيرة الحزن. في أحد أدراج خزانتها، كانت تحتفظ بخيوط الذكرى وصورة للراحل الأخير عنها، لم تشأ أن تعلق الألم على جدران الطين، كي يبقى الدمع رهين العين، وحبيس الكتمان. وحيدة كبرت وهي تحيك الأمل معطفاً والرجاء وشاحاً والليل سرمداً والعمر ضياعاً... يعودها كل مساء حفيد، يحمل لها الأمل في حقيبة، يقبل اليد، ويستجدي الدعاء. ينقل لها أخباراً لا تعنيها، وهي لا تقوى إلا أن تجيب برأسها، فتتسلل رائحة الياسمين المتكئ على أحد جدارن غرفتها، ليملأ المدى سروراً ويشاغل الذكرى، فيطفئ برداً... لتشتعل نار الشوق. لم يأتِ الحفيد هذا اليوم. جاء المساء وحيداً في زيارته الأخيرة لها لم يحمل لها الأمل، ولا حتى مفتاح للصباح. أطال البقاء عندها، وهي ترجوه أن يرحل. لا أحد يسمع ذاك الأنين، على رغم هدأة المكان والزمان. إلا اشجار الكرمة والزيتون التي بدأت تغفو على وقع ذاك الأنين. خطت نحو خزانتها، أدارت مفتاح الألم، واحتضنت صورته وأجهشت بالبكاء. فصمتت رائحة الياسمين... وسقطت الصورة. في وداع الشتاء وإقبال أولى إشراقات الربيع، تساقطت آخر أوراق العمر إذاً وانتهت من حياكة الحكاية. نشرت بساط الذكرى على عتبة غرفتها. جاء الحفيد، دق الباب، لقد رحلت..! رحلت من دون أن يودعها احد ومن دون حتى أن تفتح باب غرفتها ذاك الصباح للأمل والضياء. هكذا اقتحموا غرفتها... على حزنها وأملها... على بوحها وسرها... رفعوا الصورة وأعادوها إلى درج الخزانة، وتوالت الأيام وما زالت هناك. ما زالت سلة القش في خزانتها تحمل خيوط الذكرى ورائحة الياسمين. احكم إغلاق باب غرفتها، فهجر الياسمين المدى... ونامت ذكراها على ذات الفراش. رامي علي المصري - بريد إلكتروني.