أحمد رفيق عوض واحد من أهم أصحاب التجارب الروائية الفلسطينية الجديدة، فهو منذ مطلع التسعينات يشكل حالة روائية فريدة، لا في الرواية الفلسطينية وحسب، بل في الرواية العربية عموماً. كانت بدايته مع"العذراء والقرية"التي صدرت في العام 1992، ودعمها برواية"قدرون"التي تناولت الحال الفلسطينية أثناء الانتفاضة الأولى، وظروف عيش الفلسطينيين وعلاقتهم بأرضهم، ثم جاءت"مقامات العشاق والتجار"لتضيء جوانب أخرى من حياة الفلسطينيين بعد أوسلو، ومثلها فعلت"آخر القرن"، قبل أن ينتقل عوض إلى الرواية التاريخية من خلال روايته الفاتنة"القرمطي"، ثم روايته الأكثر أهمية"عكا والملوك". في"عكا والملوك"ثمة تاريخ يستخدمه الروائي ويستخدم شخوصه وحوادثه من أجل إضاءة الراهن الفلسطيني والعربي، فهو يقدم شخصيات تاريخية حقيقية وأخرى مبتكرة ليقول إن الماضي لم يمض، وإن الراهن ليس سوى صورة من صور الماضي، وباستثناء بعض التفاصيل فإن التاريخ يكاد يكرر نفسه، والهموم والقضايا التي عاشها الفلسطينيون في حصار عكا الذي دام سنتين، هي نفسها الهموم والقضايا التي يعانيها فلسطينيو اليوم في الضفة الغربية وقطاع غزة، سواء كان على صعيد المعاناة المعيشية، أم على مستوى علاقة بعض الفلسطينيين بالعدو. نشير هنا إلى أن هذه هي المرة الأولى التي يتعامل فيها الروائي الفلسطيني مع التاريخ بهذه الطريقة، ومن خلال شخصيات مرسومة بدقة وبأسلوب سردي تفصيلي للشخصيات والحوادث، الأمر الذي يجعل من هذه الرواية تحديداً نوعاً من القراءة الحديثة لما جرى أيام صلاح الدين الأيوبي، ولما يجري الآن، حيث التفاصيل التاريخية تؤكد أن ما يجرى اليوم هو شكل من أشكال تكرار الماضي، فالذين تعاملوا مع العدو الصليبي في تلك الأيام يقابلهم اليوم من يتعاملون مع العدو الصهيوني، ومن تركوا ساحة الصراع وهربوا في تلك الأيام نجد من يقابلهم في الصراع الجاري منذ مائة عام. ثمة معالجة فنية للشخصيات التاريخية بحيث نرى المأساة والكوميديا السوداء تلتقي في شخصية واحدة، وقد استطاع الروائي أن يبني شخوصه بتفاصيل تمنح الشخصية الكثير من الحيوية بما يقربها من الواقع المعيش، مستخدماً في ذلك لغة الزمن الذي تمتح منه الرواية ومفردات ذلك الزمن وأدواته.. بما يضع القارئ في مناخات ذلك الزمن وتفاصيله، سواء في ما يتعلق بالأدوات الحربية المستخدمة، أو بأثاث البيوت وكل ما يرتبط بالحياة العامة والخاصة للشخوص. وأخيراً صدرت له روايته"بلاد البحر". وفي هذه الرواية يتكئ عوض على أسلوب المنامات الذي عرفناه في"منامات الوهراني"خصوصاً، وبكل ما يتيحه هذا الأسلوب من تقنيات السرد، مفتتحاً روايته بمشهد هبوط"أبو الفداء"، مثل طائر الرخّ، ليحمل"أحمد بن مسعود"ويطير به فوق زمنين متباعدين، زمن الأشرف بن قلاوون والزمن الراهن، ويحلق به فوق مكان واحد هو فلسطين بمدنها وقراها، بطبيعتها الخلابة، بجبالها وسهولها، بنباتاتها وطيورها وحيواناتها الأليفة والكاسرة، ببشرها وحجرها ومياهها، بحكاياتها وأنبيائها ومقدساتها، وطبعاً بالصراع الجاري على أرضها بين أصحابها الأصليين والصهاينة الذين اغتصبوها وما يزالون. يستحضر الروائي، فيما هو يتخفى خلف"رواته"الواقعيين والمتخيلين، ذلك كله من خلال روايتين متداخلتين، الأولى تخص زمن الحروب من أجل تحرير عكا من الصليبيين، بعد مائة عام من هزيمة صلاح الدين التي سبق وتناولها أحمد رفيق عوض في روايته"عكا والملوك"، أي زمن تحرير عكا على يدي الأشرف بن قلاوون الذي أمر بإحراق المدينة بعد تحريرها قائلاً - في ما يشبه إحدى استخلاصات الرواية:"نحن نحرق أنفسنا حتى يبتعدوا عنا"، أي حتى لا يعود الصليبيون إليها. والرواية الثانية تخص الزمن الراهن الممتد من نكبة 1948 حتى اليوم. رواية عوض هذه - الصادرة حديثاً 2006 بالتعاون ما بين اتحاد الكتاب الفلسطينيين ودار الماجد في رام الله- تتبع أسلوب المنامات الذي يتيح لها وللروائي فرصة خلق شخصياته والحوادث التي يبني روايته منها، وليتمكن الراوي، بل الرواة في الرواية، من التنقل بين الأزمنة والأمكنة دونما حدود أو قيود، وحيث يتيح المنام قوة مخيلة عالية، وهو ما يثبته الروائي في ما يسبق نص الرواية، من خلال المقولة التالية لمن يسميه صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، ناقد فلسطيني قديم توفي سنة 764 ه الذي يقول:"القوة المخيلة لا يختص فعلها باليقظة دون النوم، بل تفعل في النوم أقوى لأنها لا تحتاج إلى تحريك أعضاء البدن، وإنما تستعمل عين الروح النفساني، وإنما في اليقظة كانت القوة الإرادية تصرفها على حسب اختيارها، فإذا أتى النوم أتى أمر آخر فاضطرها إلى أفعالها". يجمع الروائي، في روايته التاريخية/ الواقعية، مادة تاريخية دسمة تفيض عن حاجة الرواية، ومادة واقعية ضرورية للرواية، ويمزجهما في خلطة روائية يستخدم فيها أساليب"الروي"المتنوعة، من الحكي الشعبي والسرد"الرسمي"إن أمكن القول، والحوار والتأمل والوصف عبر اللغة الشاعرية، خصوصاً في وصف طبيعة فلسطين وعلاقة الفلسطيني بهذه الطبيعة. وهنا تبرز الموازنة بين مرايا التاريخ ومرآة الواقع الراهن/ المرهون بالحكم والتحكم الصهيوني في قضية شهد العالم- كما تبرهن الرواية- على عدالتها لكنه خان العدالة لمصلحة حاجاته ومصالحه الخاصة. "بلاد البحر"- فلسطين- هي في هذه الرواية بلاد مستهدفة تاريخياً، وقد سبق للروائي أن تناولها في مرحلة الحروب الصليبية، مركزاً على دور صلاح الدين ومحاولته- وفشله في- تحرير عكا من الصليبيين، وذلك في رواية"عكا والملوك"، كما قلنا أعلاه، وهو يعود اليوم بروايته"بلاد البحر"ليركز على مرحلة بعد مرور مائة عام على فشل صلاح الدين، حيث نجح الأشرف بن قلاوون في ما فشل فيه الناصر صلاح الدين، لكن انتصار ابن قلاوون انتهى إلى قراره بإحراق المدينة.. وكأن على عكا- فلسطين أن تراوح بين الاحتلال والحرق، وليس في الإمكان مكان لخيار ثالث. لن يستطيع قارئ"بلاد البحر"الاحتفاظ بالكثير منها، على رغم الأهمية الكبيرة التي تتميز بها التفاصيل المهولة التي يشتغل عليها الروائي، سواء لجهة العدد الهائل من الشخوص، الأساسية والثانوية، أو لجهة الحوادث الروائية التي يتابعها الرواة في الواقعي والتاريخي. وعلى رغم أن الهم الرئيس للرواية يتركز على الراهن في الصراع العربي- الفلسطيني تحديداً - مع العدو الصهيوني، وذلك بالتداخل مع تاريخ الصراع والصراع التاريخي، إلا أن هذا الصراع لم يمنع الروائي من توجيه"مقص التشريح"نحو مظاهر الضعف والفساد التي يعانيها الواقع الفلسطيني، بما يؤكد أن هذه المظاهر هي سبب رئيس في الهزيمة التي يعيشها الفلسطينيون. فهناك وصف تفصيلي لما يحدث في فلسطين منذ"عودة"من عادوا إليها من فاسدين ومفسِدين.. وذلك كله من خلال شخصية رئيسة هي شخصية المثقف والكاتب أحمد بن مسعود الذي قد يكون مجرد ظل للروائي الذي يحمل من التجارب والذكريات ما يشكل"موسوعة"لحياة الفلسطينيين في الزمنين الروائيين المتداخلين، التاريخي والراهن.. موسوعة لحياة الريف والمدينة، وللشخصية الفلسطينية بكل ملامحها، بإيجابياتها وسلبياتها، بطيبتها وسذاجتها وخبثها وتلاوينها المختلفة، حيث يرصد معالم تكوين هذه الشخصية عبر التاريخ، مادحاً بأوصاف منصفة حيناً، ومنتقداً بسخرية لاذعة حيناً آخر. وحسب ما يتابع قارئ هذه الرواية، فربما يكون أحمد رفيق عوض أحد الروائيين القلائل القادرين على الاشتغال بالواقع الفلسطيني، سواء على الصعيد الداخلي والعلاقات الداخلية، أو على مستوى العلاقة مع العدو الصهيوني، فهو يبرع في رسم شخصيات فلسطينية من مستويات متعددة، وخصوصاً شخصية الفلاح الفلسطيني في علاقاته المختلفة، من علاقته بأهله وجيرانه إلى العلاقة بالأرض والشجرة والطبيعة عموماً. كما يبرع عوض في رسم شخصيات يهودية متنوعة، وخصوصاً شخصية المجند والضابط في علاقته مع الفلسطيني، في السجن كما على الحواجز، بما يقدمه من تفاصيل مهمة في رسم هذه الشخصية وقراءتها على الصعيد النفساني الذي يسهم في تكوينها، ومن يتابع- مثلاً لا حصراً - شخصية اليهودي الذي كلف بتهديم منازل مخيم جنين بالجرافة الشهيرة يدرك مدى تعمق الروائي في دراسة هذه الشخصية لرسم ملامحها البارزة والدقيقة المتعلقة بأسباب متعتها في ممارسة العنف الهمجي. ومقابل هذا العنف يبرز العنف في شخصية الشرف بن قلاوون الذي لا يتورع عن قتل رسل الملك الصليبي بسيفه، كما لا يتراجع عن قراره بإحراق عكا بعد تحريرها. هذا الأسلوب الروائي- التاريخي الواقعي- جديد على الرواية الفلسطينية، وهو جديد حتى على الرواية العربية، على رغم حضور الرواية التاريخية عربياً، لكن الفارق هو في الانتقال ما بين التاريخي والراهن/ الواقعي، الراهن الغارق في الوحل على غير صعيد، سواء منها الصعيد الشعبي أو الرسمي، وتتميز"بلاد البحر"، في هذا الإطار، بقدرة عالية على رصد الواقع وتحويله مع الذكريات إلى مادة روائية مدهشة، على رغم كل ما عرفناه ونعرفه عن الواقع من تفاصيل تعالجها الرواية. هي، أخيراً، ملحمة الفلسطيني على مدى العصور، الملحمة التي ترسم صورة البطل مهزوماً ومعانداً قدر الهزيمة كأي بطل أسطوري، في الوقت الذي تقدم الجانب البسيط للفلسطيني في حياته اليومية التي تخلو من البطولة وتركز على التافه من شؤون الحياة، كما لا تتورع عن تقديم الصورة السالبة للفلسطيني الذي ينظر إليه في معظم الأعمال الأدبية بوصفه ملاكاً ومقهوراً ومضطهداً، فهو هنا يبدو إنساناً عادياً، قد يكون ضعيفاً أو خائناً وجاسوساً وفاسداً، وهو ما لا يبدو مطروحاً على نحو معمق في النص الفلسطيني. وتظهر في الرواية آفات اجتماعية تبرز المجتمع الفلسطيني مجتمعاً مريضاً، لتخلص إلى أن مجتمعاً كهذا لا يمكن له مقاومة الاحتلال والخلاص منه. وما يعانيه الفلسطينيون من بعض قياداتهم ورموزهم الفاسدة يمكن أن يفوق ما يعانونه من الاحتلال. بل يمكن القول إن الاحتلال يؤكد حضوره وقوته بوجود تلك القوى"الفلسطينية"من حيث المولد والمعادية من حيث التوجهات والممارسات، وهي تبلغ في ولوغها في الدم الفلسطيني حد التعاون- في صور مختلفة- مع قوة الاحتلال.