رغم ان الحوار طال بين القوى والتيارات السياسية اللبنانية الا ان هذا التطويل يحمل بذاته وجهاً ايجابياً إذ يشير الى أن الحوار جدي ويحقق بالفعل تقدماً، والا لما استمر طوال هذا الوقت، ولو لم تكن لهذا الحوار أهميته وخطورته لما استمرت حلقاته، ولما احتاج الأمر الى تقطيعه على جولات تعيد الأطراف خلالها النظر في مواقفها وتقيم نتائج كل جولة وتستعد للجولة التالية. لكن السؤال: هل يعني الحوار ان الأزمة اللبنانية انتهت؟ أو على الأقل ستنتهي عندما يتوصل المتحاورون الى اتفاق؟ الاجابة الديبلوماسية اليسيرة على هذا التساؤل ان الحوار لن ينهي مشكلات لبنان ولن يحلها بعصا سحرية، لكن الاجابة الأصعب والأكثر واقعية هي أن الحوار اللبناني سيفتح الباب بالفعل أمام حل المشكلات اللبنانية، لكنه في الوقت ذاته يعني انتقال تلك المشكلات من مستوى الى مستوى آخر تماماً، وأن الشأن اللبناني لم يكن يوماً لبنانياً خالصاً، لذا ليس من الواقعية بمكان الظن بأن بضع جلسات من الحوار والمناقشة بين الفصائل والتيارات والقوى والرموز السياسية اللبنانية، من شأنها وضع حد لمشكلات وتراكمات سنوات بل عقود طويلة من الخلافات فضلاً عن الأهم وهو ارتباط تلك التراكمات بأطراف أخرى غير لبنانية، أطراف كثيرة ذات مصالح متضاربة وسياسات متعارضة واحياناً مواقف متناقضة. ان أي اتجاه عملي وواقعي للتعامل مع المشكلات والملفات اللبنانية المعقدة كان لا بد أن يبدأ بخطوة الحوار، أي ان تتصارح الأطراف اللبنانية مع ذاتها ومع بعضها بعضاً، وتتبادل المواقف والتصورات والتوقعات، وهذا بالفعل ما شهدته جلسات الحوار الوطني اللبناني حتى الآن. بل ذهب اللبنانيون الى أبعد من ذلك وحققوا تقدماً فعلياً في بعض الملفات والقضايا التي تطرقوا اليها. لكن لا بد من الاعتراف بأن هذا التقدم الذي حققه اللبنانيون في ما بينهم يرجع بالأساس الى استشعارهم الخطر المحدق بهم وببلدهم، وهذه من الحالات النادرة التي يجتمع فيها فرقاء بلد واحد - طالما دخلوا في صراعات ومنازعات بل وحروب - نتيجة دافع مشترك هو الشعور العام بالخطر الذي يتهدد البلد وبالتالي يتهدد الجميع. وساعد على ذلك ميزان القوة الداخلي في لبنان، والذي خرج بفضل التطورات خلال العامين الماضيين على صورة توازن دقيق بين مختلف القوى بحيث لا يمكن لأي منها حسم الأمور بمفردها ولا حتى بالاستعانة بأطراف أخرى. وهذه ايضاً من الخصوصيات المتفردة للبنان والشخصية اللبنانية، فلدى اللبنانيين دائماً مرجعية أخيرة يتم اللجوء اليها إذا ضاقت بهم السبل، تلك هي المواطنة اللبنانية، الهوية الأولى لديهم رغم وجود هويات اخرى مذهبية ودينية وغيرها. وربما كان هذا التعدد والتباين هو ذاته الدافع وراء الاحتفاظ بالهوية الوطنية كملاذ أخير عند اللزوم. وتذكرنا الحالة اللبنانية في هذا بالحالة الأميركية، حيث تنوع كبير في جذور وأصول الأميركيين الذين جاءوا خليطاً من كل بقاع الأرض بدياناتها وألوان بشرتها ومذاهبها ولغاتها، ونتيجة هذا الخليط غير المتجانس، اتفقوا على اتخاذ الهوية الأميركية اطاراً يجتمعون فيه وحوله ومن أجله. وعلى النقيض من ذلك الحالة العراقية، فبمجرد أن سقطت عصا الحكم المركزي الحديدي، انفرط العقد وراح كل عراقي يبحث عن هويته الجزئية ويعتمدها في نظرته لذاته وللآخرين، بل يريد فرضها عليهم. لكن هذا الحس الوطني العالي لدى اللبنانيين ليس مطلقاً وليس حاضراً في جميع الأحوال أو لدى كل الأطراف اللبنانية بالقدر ذاته، والا لانصهر اللبنانيون معاً منذ سنوات، ولما وجدت مشكلة من الأساس. بيد أن الأمر الواقع يشير الى غير ذلك، فقد ظهر هذا الحس الوطني العالي الذي دفع اللبنانيين الى الحوار والجلوس معاً، بعد أن عجز أي منهم على حسم الأمور بمفرده، أو بالاستعانة بأطراف أخرى. ومما يرجح هذا التحليل ما آلت اليه جولات ومناقشات الحوار، ففي كل من هذه الجولات والتوقفات التي تخللتها، كان البعد الخارجي حاضراً بقوة، سواء بحكم طبيعة القضايا والمواضيع التي تجري مناقشتها، أو لحرص بعض الأطراف اللبنانية على الاستقواء بالخارج في مجريات الحوار، أو استكشاف مواقف الخارج قبل اتخاذ قرارات أو خطوات اعتماداً عليه. على المستوى الأول القضايا والمواضيع يصعب القول ان ثمة قضية أو مشكلة لبنانية خالصة، بدءاً بالعلاقة مع سورية، مروراً بمزارع شبعا، والتحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، انتهاء بسلاح"حزب الله". فجميع تلك القضايا والمواضيع هي لبنانية بالدرجة الأولى وخارجية ايضاً بدرجة ما. وأقل القضايا ارتباطاً أو تداخلاً مع البعد الخارجي هي مسألة سلاح الفصائل الفلسطينية في لبنان، لذا كانت أولى القضايا والمواضيع التي تم التوصل الى توافق بشأنها بين الأطراف المشاركة في الحوار، تليها مباشرة مسألة التحقيق في اغتيال الحريري، التي تم الاتفاق بشأنها على المطالبة بتوسيع نطاق عمل لجنة التحقيق ليشمل كل العمليات التي سبقت أو أعقبت اغتيال الحريري. أما المواضيع الأخرى الأكثر أهمية وتعقيداً، فإن ثمة مفارقة ميزت وضعيتها في الحوار اللبناني، فكما كان من العسير قبل الحوار أن يتمكن أي طرف لبناني من حسمها لصالحه سواء بمفرده أو بالاستعانة بأطراف خارجية، لم يتمكن اللبنانيون معاً ايضاً من التوصل الى توافق حولها، دون الاستعانة ايضاً بالقوى الخارجية والأطراف المعنية بتلك الملفات والقضايا، أو المرتبطة بتلك القوى والتيارات للاسترشاد بمواقفها وتحديد نطاق الحركة ومدى التشدد أو المرونة التي يمكن اظهارها. وكان السبق في هذا لوليد جنبلاط زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي الذي غادر الى الولاياتالمتحدة بعد يوم واحد فقط من بدء جولات الحوار، قبل أن يعود ليظهر مواقف مختلفة نسبياً عما كانت قبل مغادرته. ثم توالت الاتصالات والمشاورات أثناء فترات التوقف بين كل جولة وأخرى. ولا يقلل هذا من أهمية وجدية الحوار الوطني اللبناني، بل على العكس، فقد حرص اللبنانيون على مناقشة مشكلاتهم بأنفسهم وليس من خلال وكلاء أو وسطاء. فعندما واجهوا صعوبات في حسم الأمور بمفردهم، كان لا بد من اللجوء الى الخارج لحلحلة بعض المواقف وتحريك بعض الملفات. وتجدر الاشارة هنا الى أن تلك الملفات نتيجة بعدها الخارجي هي أكثر حضوراً وتغلغلاً من تلك التي تم حسمها. بل قد لا نبالغ اذا اعتبرنا أنه كان من المستحيل تقريباً على اللبنانيين - مهما بلغت درجة النضج السياسي لديهم ومهما علا الحس الوطني على ما عداه من انتماءات أو هويات - ان يتمكنوا من حسم تلك الملفات، لسبب بسيط هو أن اللبنانيين جميعاً مجرد طرف فيها وليسوا وحدهم كل أطرافها. فبغض النظر عن اتفاقهم أو اختلافهم، ليس من المتيسر حسم العلاقة مع سورية بقرار أحادي دون استجابة سورية، أو تحديد مصير مزارع شبعا، ايضاً دون مشاركة سورية، وبدور أممي، وبقبول أو على الأقل علم اسرائيلي وعربي. كذلك الأمر بالنسبة لوضعية"حزب الله"ومستقبل سلاحه. وهنا تكمن الأهمية والخطورة في آن، فالقوى والأطراف الخارجية المعنية بالشأن اللبناني والمنغمسة فيه بدرجة أو بأخرى، مطالبة حالياً بالمشاركة في حسم الملفات والقضايا العالقة والمفتوحة للنقاش في الحوار الوطني اللبناني، وأكثر ما يقلق المراقب في هذه اللحظة أن تغتر الأطراف الخارجية - أياً كانت - باضطرار اللبنانيين الى إشراكها مجدداً، وتكون النتيجة التعامل مرة أخرى بعنجهية أو بمنطق سادي. فعندها لن تتوقف الخطورة عند تعليق الملفات أو حتى فشل الحوار بين الفرقاء اللبنانيين وحسب. وانما سيكون معنى ذلك أن آخر المحاولات والسبل التي طرقها اللبنانيون لتصحيح الأوضاع واستعادة زمامهم بأيديهم قد فشلت. والنتيجة المباشرة التالية في هذه الحالة، أن تعود المسألة اللبنانية برمتها الى المربع رقم واحد، وتبدأ كل الأطراف الداخلية والخارجية من جديد في العمل المنفرد واستخدام شتى السبل والوسائل والأدوات والخطط لتسيير الأمور كل في صالحه. تلك هي المفارقة التي تميز الوضع حالياً في لبنان، أن تكون الاستعانة بالخارج من أجل لبننة لبنان هي مفتاح الحل، وهي ايضاً المدخل الى تعطيله. * كاتب مصري