على عكس التشدد الأمريكي الذي كان متوقعاً من جانب صقور إدارة أوباما ضد السودان، بعدما توعدوا رئيسها وحكومتها - قبل وصولهم السلطة - بالعقاب والحظر الجوي، يبدو الموقف الأمريكي الحالي من السودان "تطبيعيا" وأكثر تفهماً بصورة تبعث على الحيرة والتساؤل وربما القلق أيضا! فالموقف الأمريكي – في ظل فريق صقور إدارة أوباما الجديدة الذي يعادي الخرطوم بدأ بالتهديد والوعيد من قبل وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في أول مؤتمر صحفي لها بعد توليها منصبها قبل ثلاثة أشهر، وتصاعد هذا الوعيد بتأييد أمريكي ضمني لحكم المحكمة الجنائية ضد الرئيس البشير. ولكن سرعان ما غلف الصمت الموقف الأمريكي وأصبح "الصقور" مستأنسين، بل وبدأت سلسلة من التحركات المعاكسة تماماً، والتي تبدو محاولة لخطب ود السودان لهدف غير واضح أو معلوم، وتبع ذلك تقاطر المسؤولين الأمريكيين على الخرطوم وسط تكهنات بصفقة أمريكية – سودانية لم تنضج بعد. في هذا السياق جاءت زيارة المبعوث الأمريكي للسودان "سكوت جرايشن"، ومن بعده جون كيري، المرشح الرئاسي الأسبق ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، لتؤكدان على أن تحولاً أمريكيّاً تجاه السودان قد بدأ بالفعل. هذا التحول وصفه وزير الإعلام السوداني، الزهاوي مالك، بالقول: "الأمور تتغير الآن"، كما تحدث عنه وزير الدولة للشئون الخارجية، على كرتي، بقوله: "إن تغييراً طرأ على الموقف الأمريكي"، ووصفته أطراف سودانية أخرى بأنه ربما يكون سعي أمريكي لحل مشكلة دارفور كعربون للتطبيع مع السودان والبحث لاحقا عن مكاسب، والعودة للسودان طوعاً لا قسراً! الخطة الأمريكية هذا السعي الأمريكي للعب دور في حل مشكلة دارفور -أملا في مقابل سوداني لاحقاً- ظهر في تصريحات المبعوث الأمريكي وكذا النائب جون كيري اللذين سعيا معاً للتقليل من مخاطر الوضع في دارفور من جهة، والبحث عن حل لمشكلة طرد المنظمات الغربية من جهة أخرى، والأهم (تفهم) أن من يعرقل التفاوض هم الحركات المتمردة في دارفور لا الحكومة السودانية التي أعلنت استعدادها للتفاوض في أي لحظة. وتظهر قراءة تصريحات كيري -وهو يغادر دارفور بعد زيارتها - بوضوح أن هناك خطة أمريكية فعلية تتبلور للتدخل بصورة متوازنة لمشكلة دارفور، كما تعطي فكرة عن الشروط الأمريكية المطلوبة من السودان مقابل هذا التدخل الأمريكي... فماذا قال كيري؟ السيناتور الأمريكي قال بوضوح: "الولاياتالمتحدة ترغب في تعزيز علاقتها الثنائية مع الخرطوم، إلا أن ذلك يتوقف على تحركات إيجابية من الحكومة السودانية"، ثم حدد هذه "التحركات السودانية" - المطلوبة أمريكيا - بقوله: "نأمل أن تتخذ الحكومة السودانية قرارات بشأن دارفور وبشأن تطبيق اتفاق السلام بين الشمال والجنوب وقضايا أخرى من بينها الأسلحة وحماس، فهذه أمور مهمة لهذه العلاقة حتى نستطيع المضي قدما فيها". وفقا لذلك، فإن الشروط الأمريكية المطلوبة من الخرطوم هي: 1 اتخاذ قرارات بشأن دارفور، مثل السماح بعودة منظمات أجنبية مطرودة أو إيجاد حل لمشكلتها. وهذه حلتها الخرطوم بالقول ل "كيري" إنها توافق على قدوم منظمات أمريكية جديدة بدلاً من المطرودة، ورد كيري بالموافقة الضمنية حين قال إنه تم حل مشكلة إغاثة دارفور "جزئيا"، وكذا وقف إطلاق النار والتفاوض، وهذا أيدته الخرطوم وعابت على المتمردين عدم الرغبة في السلام، ولفت المبعوث الأمريكي "جرايشن" الأنظار حين قال إنه وجد الأوضاع الإنسانية في دارفور "أفضل كثيراً مما كان يتوقع". 2 تطبيق اتفاق السلام بين الشمال والجنوب، وهذا لا مشكلة فيه؛ فهناك توافق بين الخرطوم والحركة الشعبية بشأنه، واتفاق على موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في فبراير 2010 بعد تأجيلها. 3 عدم تورط الخرطوم في قضية مد حركة حماس بالسلاح خصوصاً بعدما كشف العدوان الإسرائيلي على شرق السودان في يناير وفبراير 2009 عن ذيول لهذه القضية الغامضة. وهذه ردت عليها الخرطوم بأن ما تم قصفه هو قوافل اتجار في البشر وتهريب بشر لسيناء ومنها لإسرائيل وأوروبا. والأهم – كمقابل لهذه الشروط الأمريكية – أن واشنطن بدأت تلوح للضغط على المتمردين الدارفوريين، بحسب تصريح لكيري حث فيه متمردي إقليم دارفور على "التفاوض مع الحكومة السودانية للتوصل إلى اتفاق سلام". وقبل هذا قال المبعوث الأمريكي للسودان: "أنا سعيد أن أسمع من كل المسؤولين الذين التقيتهم الاستعداد للتفاوض في أي وقت، وأن المشكلة بالتالي هي في حركات التمرد التي يجب جلبها للطاولة". ولكن هذا لا يعني أن أمريكا ستقوم برفع العقوبات عن السودان وحل المشاكل المعلقة بينهما في يوم وليلة؛ فعلى الأقل سنرى ثمار هذا عندما تظهر بوادر حل سياسي لمشكلة دارفور. وقد أبلغ المبعوث الأمريكي المسؤولين في الخرطوم قبيل مغادرته باستحالة رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان وسحب اسم السودان من لائحة الدول الراعية ل "الإرهاب" وتطبيع العلاقات بين البلدين في حالة "عدم تحسن الأوضاع في إقليم دارفور، ومعالجة موضوع طرد المنظمات الإنسانية العاملة في السودان". والذي تتوقعه الخرطوم بعد هذه الزيارات للمبعوث الأمريكي وللسيناتور كيري للسودان أن يبادر هؤلاء بعرض الحقائق على صقور إدارة أوباما، ويبدؤون في طرح الخطط الأمريكية البديلة لتسهيل عقد مفاوضات بين المتمردين والحكومة، ولو بالدخول على خط الدوحة واللقاءات المرتقبة هناك بين الحكومة وحركات التمرد أو منبر "كينيا" الذي سبق أن استخدمته واشنطن لتدشين مفاوضات سلام بين الخرطوم والحركة الشعبية الجنوبية. سلام دارفور الأمريكي لم يكن تفاؤل المبعوث الأمريكي الجديد "سكوت جرايشن" وهو يغادر السودان بإمكانية الوصول لحلول جذرية لإنهاء النزاع في دارفور خلال ستة أشهر مجرد صدفة؛ فخلف هذا التصريح تكمن تفاصيل خطة أمريكية تجري دراستها بالفعل، وبشرت بها إدارة أوباما لإيجاد منبر تفاوضي جديد لدارفور، وربما كانت زيارات "جرايشن" و"كيري" مقدمات لها لدراسة الوضع خصوصا أن "جرايشن" سيعود للخرطوم في مايو المقبل مرة أخرى كما قال، ربما لتحديد خطة التحرك. تفاصيل هذه الخطة الأمريكية تتلخص في إيجاد منبر تفاوضي أمريكي جديد لإنهاء النزاع في دارفور تحت رعاية واشنطن (لاحظ غياب الدور العربي وتجاهل أمريكا له أصلا)، تماما كما فعلت في رعاية مفاوضات الخرطوم والحركة الشعبية الجنوبية في كينيا، والتي توجت باتفاقية نيفاشا. وطبيعي ألا تسمح الخرطوم لأمريكا بلعب هذا الدور إلا بعد تحسن العلاقات، أو على حد تعبير مستشار الرئيس السابق د. غازي صلاح: "إذا أرادت الولاياتالمتحدة أن تلعب دوراً إيجابياً لابد أن تكون علاقتها مع السودان ايجابية". ولا يجب أن نغفل هنا عن أن زيارة كيري للخرطوم ومن قبله المبعوث الأمريكي تحمل أكثر من رسالة؛ فهي من جهة تحمل رسالة انتصار سودانية في مواجهة الضغوط الغربية ككل، وتحمل رسالة مفادها إن "كارت ضغط" الجنائية الدولية فقد صلاحيته حسبما قال القيادي بحزب المؤتمر الوطني د. قطبي المهدي لصحيفة "الانتباهة". أما سر اختيار كينيا لخطة السلام الأمريكية لدارفور؛ فيرجع لعدة أهداف أبرزها أن كينيا قاعدة معروفة للمخابرات الأمريكية ومكان تتجمع فيه حركات التمرد السودانية المختلفة، فضلا على أن هناك خبرة كينية بمشاكل السودان مثل خبرتها في اتفاقية سلام نيفاشا. ولكن ما لم يقله الأمريكيون هو كيف سيجمعون فصائل التمرد في دارفور للجلوس أمام الخرطوم وتحديد مطالبهم، وكيف سيضغطون على حركات مدعومة من الخصم الفرنسي الذي ينافس أمريكا النفوذ والصراع على موارد دارفور والسودان ككل مثل (حركة تحرير السودان)؟ الثمن ويبقى السؤال الأهم هو: ما هو المقابل الذي تسعى له واشنطن من العودة "التطبيعية" مع الخرطوم والمساهمة في البحث عن حل لمشكلة دارفور؟.. في مشكلة الجنوب السوداني كان الهدف الأمريكي لدى إدارة بوش السابقة هو مبدأ تفكيك السودان عبر اتفاقيات سلام أو "تفكيك الأطراف"، وجاء التدخل الأمريكي لتذليل عقبات التفاوض للتوصل لاتفاق نيفاشا على هذه الخلفية، وبحجة خدمة الخرطوم أيضاً لأنها قدمت خدمات استخباراتية لأمريكا عقب هجمات 11 سبتمبر 2001. أما في مشكلة دارفور، فالهدف الأمريكي لم يختلف كثيراً، لكن الجديد هو أن هناك صراع ديناصورات دولي خصوصا بين أمريكا والصين وفرنسا – على موارد السودان ودارفور الوفيرة، وهناك رغبة أمريكية في العودة السريعة للسودان لجني بعض المكاسب ومزاحمة الصين، خصوصاً في ظل الأزمة المالية التي تتطلب تنازلات أمريكية سياسية مقابل مكاسب اقتصادية. ولا ننسى هنا أن أمريكا باتت تعتمد على نفط غرب إفريقيا بنسبة 22% من نفطها المستورد، وهناك توقعات أمريكية أن يصعد هذا الرقم إلى الضعف بحلول عام 2025، والنفط السوداني يدخل ضمن هذه الأجندة، فضلا على الموقع الاستراتيجي في دارفور غرب السودان، وموقع السودان ككل في المنطقة كقارة في حد ذاته. الكرة باتت في الملعب الأمريكي الآن والرد الأمريكي بعد زيارة المبعوث الأمريكي والسيناتور كيري وقدرتهما على إقناع صقور أوباما بخططهما، سيظهر هل تشرع واشنطن في خارطة طريق لدارفور على غرار جنوب السودان مقابل تطبيع ومكاسب اقتصادية من السودان أم نرى سيناريوهات أخرى؟!