الأمبراطور الروماني عين حصانه برتبة"سناتور"، وهو ربما كان أكثر حكمة من الأميركيين الذين انتخبوا جورج بوش رئيساً. الرئيس بوش غزا دولتين اسلاميتين، وهو يهدد دولة اسلامية ثالثة هي ايران، وربما سورية، وبعدما اغضب الجميع قرر نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط، فكان أن فاز الاسلاميون في مصر والعراقوفلسطين. وبما ان جميع المرشحين في المملكة العربية السعودية اسلاميون، فقد فاز بالانتخابات البلدية الاسلاميون"أكثر". طبخة الديموقراطية على الطريقة الأميركية جاءت"مسلوقة"، كما نقول في لبنان، فإدارة بوش لم تكن في وارد أي ديموقراطية عندما غزت العراق، وانما كانت تفتش عن أسلحة دمار شامل وعلاقة مع القاعدة. وعندما لم توجد أسلحة الدمار الشامل، ولم تثبت العلاقة مع القاعدة، أعلنت الولاياتالمتحدة حرباً على الارهاب، فزاد الارهاب حول العالم بدل أن ينقص، والى درجة أن تتلاعب وزارة الخارجية بالارقام، ثم تتراجع بعد أن عرفت الحقيقة. وهكذا كان ان اعلنت الولاياتالمتحدة انها تريد نشر الديموقراطية في"الشرق الأوسط الكبير"، فكانت الديموقراطية خياراً ثالثاً أو"تيرسو"باللهجة المصرية المنقولة عن الايطالية. هل تريد إدارة بوش الديموقراطية فعلاً في الشرق الأوسط؟ افترض ذلك، على رغم ما يبدو من فشل في الترويج لها بيننا، ففي العراق الذي كان يفترض أن يصبح منارة ديموقراطية للمنطقة كلها، انفقت الولاياتالمتحدة على الحرب حوالى 300 بليون دولار، ستصل الى 500 بليون دولار قبل سنة 2010 مع تقديرات ترفعها الى ترليون دولار. غير ان ما انفق على الترويج للديموقراطية في العراق، وهي الهدف النهائي بعد تغيير الأهداف، يكاد يكون نقطة في بحر الإنفاق العسكري، فأعلى رقم قرأته كان 71 مليون دولار لمؤسسات أميركية تتعامل مع هيئات محلية عراقية لتثقيف العراقيين في أصول الديموقراطية. وقد خفض الإنفاق على مشاريع الديموقراطية في آخر مخصصات للحرب أقرها الكونغرس، فكان أعلى رقم قرأته ثلاثة ملايين دولار. سؤال ثانٍِ: هل تعرف ادارة بوش أي مدخل دخلت بمشروع الديموقراطية هذا؟ وزيرة الخارجية الدكتورة كوندوليزا رايس تحدثت عن التزام اجيال، وعن تقديم حرية الاختيار حتى لو كانت نتائجها غير متوقعة، أو يصعب توقعها، على استقرار الطغيان. وحصلت الولاياتالمتحدة على ما لم تتوقع في العراق حيث تقدمت الاحزاب الدينية ذات الميليشيات، وفي مصر حيث حقق الاخوان المسلمون نتائج مذهلة، وفي فلسطين حيث فازت حماس. وكانت اسرائيل وفتح حاولتا اقناع الادارة الأميركية بالعمل لتأجيل الانتخابات الفلسطينية بعد أن اظهرت استطلاعات الرأي العام تقدم حماس، إلا أن الدكتورة رايس قالت في 11 كانون الثاني يناير الماضي"ان تطوير ديموقراطية فلسطينية قائمة على التسامح والحرية عنصر أساسي في خريطة الطريق"، وجاءت الانتخابات الفلسطينية في 25 من الشهر نفسه لتصدم الادارة، فترد بتجويع الفلسطينيين عقاباً، ثم تتراجع أمام الضغوط الأوروبية والعربية. خريطة الطريق انضمت الى اسلحة الدمار الشامل، والموضوع ليس الديموقراطية، أولاً أو أخيراً، مع انني اثق بنيات الرئيس ووزيرة خارجيته، وانما الامبراطورية التي حلم بها المحافظون الجدد، وكتبوا عنها وروجوا لها، ثم جاء ارهاب 11/9/2001، ليعطيهم فرصة التنفيذ بعد ان خطفوا السياسة الخارجية الأميركية. أحلام الأمبراطورية تحطمت على صخرة الواقع العراقي، فالعراقيون لم يستقبلوا القوات المحتلة بالورد والزغاريد، والحرب لم تكن نزهة. غير أن العراق وحده لم يوقظ الحالمين بالامبراطورية من حلمهم، فقد كانت هناك معارضة صاخبة من معارضي العولمة والهيمنة، ثم ان الامبراطورية، كما قال مايكل فلاهوس في"اميركان كونسرفاتف"الشهر الماضي وجدت على رأسها امبراطوراً فاشلاً أو مقصراً، ولا يملك نفقات ادارة امبراطورية، فالعجز قياسي من الموازنة الى كل رقم مالي آخر. وأخيراً فالامبراطوريات تسقط، كما تقوم، واذا كان القرن العشرون هو القرن الأميركي، فإن القرن الحادي والعشرين قرن امبراطورية أخرى ربما كانت صينية. المحافظون الجدد تحدثوا عن امبراطورية خير أو للخير، الا ان هذا دعاية مثل أي دعاية تجارية، فاحتلال العراق لا يمكن فصله عن نفط الشرق الأوسط، لذلك أراد دعاة الامبراطورية ديموقراطية عراقية تخدم المصالح الأميركية، وهذا صعب في أي بلد، ومستحيل في العراق. بل ان الدرس العراقي جعل الدول الأخرى أكثر حذراً، واكثر حرصاً على استقلالها، وشجعت بسرعة دخول لاعبين آخرين المنطقة، والصين أصبحت أكبر مشتر للنفط الايراني، وأكبر مصدّر للسلاح الى ايران، وهي عقدت اتفاقات كثيرة مع المملكة العربية السعودية، ودعت مذكرة التفاهم بين البلدين بعد زيارة الملك عبدالله بن عبدالعزيز الصين في كانون الثاني الماضي الى"زيادة التعاون والاستثمارات بين البلدين في النفط والغاز الطبيعي والمعادن". وحتى الكويتالمدينة باسترداد كيانها وحريتها للولايات المتحدة تظل ذات نزعة استقلالية عميقة، ومثلها قطر والامارات العربية المتحدة ودول أخرى. ماذا يفعل الرئيس بوش في وجه نكسة الحرب في العراق، وخطر مواجهة اكبر مع ايران، وتعثر المشروع الديموقراطي؟ هو يصلّي، والأميركيون يحيون"يوم صلاة وطني"، عادة ما يكون في أول خميس من أيار مايو، وقد دعا الرئيس في مناسبته الأميركيين الى"العودة الى جذور الايمان والصلاة"وطلب منهم الاعتراف المتواضع باستمرار"اعتمادنا على القدرة الالهية". بالنظر الى سياسة الرئيس بوش، أجد ان الذين لم يكونوا يصلّون أصبحوا يصلّون خوفاً، وسأكمل غداً، فقد بدأت اجمع ملفاً عن الديموقراطية في الشرق الأوسط مع بدء السنة، حتى أصبحت عندي مادة لكتاب سأحاول اختصارها في حلقتين أو ثلاث فقط.