اعتاد القائمون على المركز الثقافي العربي السويسري ان يعطوا لكل دورة من دورات"مهرجان المتنبي"الست عنواناً مختلفاً يشير الى قضية مهمة من القضايا التي يرتبط بها الشعر. واذ كان المهرجان الأسبق قد تناول قضية الشعر والدين، فيما تناولت الدورة السابقة قضية الشعر والتشكيل، فإن الدورة الاخيرة عقدت تحت عنوان الشعر والسياسة. أما التطور النوعي الذي أصابته هذه الدورة فهو يتمثل باتساع رقعة المهرجان لتطال خمساً من المدن السويسرية المهمة هي زوريخ ولوتسيرن وبرن وجنيف ولوغانو، بعد ان كانت الدورات السابقة تقتصر على زوريخ وحدها بوصفها مقراً للمؤسسة الراعية. وهذا التطور الجديد سمح للشعراء المشاركين بأكثر من قراءة واحدة وبالانتقال عبر باص صغير من مدينة الى اخرى على طريقة التروبادور او الشعراء الرحّل. كما سمح لنا بالتعرف على مناطق واسعة من الطبيعة السويسرية النادرة والخلابة. أما المشاركون العرب فقد كانت بينهم عائشة أرناؤوط من سورية ومريد البرغوثي من فلسطين وحلمي سالم من مصر وكاظم الحجاج من العراق وعبدالله باشراحيل من السعودية وخلود المعلا من الامارات وخلود الفلاح من ليبيا، اضافة الى مشاركتي الشخصية عن لبنان. فيما شارك من شعراء الغرب كورت إيبلي وألبرتو نسي وجوزيه فلورا تابي وسابينا وانغ وكاثي تسارنغين، الايرانية الاصل، من سويسرا، وماثيوس سويني من بريطانيا ولويزا كاسترو من اسبانيا وارنست ويشنر من ألمانيا وروبرت شندل من النمسا ودانيال لوفيرس من فرنسا وزلاتكو غراسني من صربيا وعدنان أوزر من تركيا. كانت زوريخ، العاصمة الاقتصادية النشطة للاتحاد السويسري، المدينة الأم الراعية للمهرجان والتي احتضنت حفله الافتتاحي وثلاثاً من أمسياته الشعرية فضلاً عن الحلقة الدراسية المتعلقة بالشعر والسياسة. في الحفل الافتتاحي لم تتجاوز كلمة الشاعر علي الشلاه مقتضيات الترحيب بالوافدين مخلياً الأمسية للشعراء المشاركين حيث استهل الشاعر السويسري كورت إيبلي القراءات بقصائد قصيرة ذات طابع ايحائي وبالغ التكثيف. وايبلي الحائز على جوائز عدة محلية بدا شديد الوثوق من حضور قصيدته في وجدان مواطنيه الى الحد الذي جعله غير مبال بالالقاء او انتظار ردود فعل الحاضرين. الشاعرة الاماراتية خلود المعلا قرأت قصائد هادئة تتراوح بين مكابدات الانثى وهواجسها في المجتمع الشرقي وبين لغة الصمت والعزلة والانكفاء الى الداخل. تبعها بعد ذلك الشاعر السعودي عبدالله باشراحيل الذي قرأ بعض قصائده الموزونة اضافة الى قصيدة نثرية قصيرة. أما الشاعرة الاسبانية لويزا كاسترو فقد مثلت بامتياز جيل الشعراء الشبان في بلادها حيث بدا شعرها محاولة جدية للخروج على الجيلين السابقين عبر نصوص مفاجئة يتقاطع فيها المحسوس مع الماورائي من دون استسلام للغنائية الاسبانية التقليدية. وكان ختام الأمسية مع الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي فقد اختار العديد من نصوص مجموعته الشعرية"منتصف الليل"اضافة الى نص آخر بعنوان"لا مشكلة لدي". وقد استطاع البرغوثي ببراعة لافتة ان يقدم صورة صادقة وجارحة عن الواقع الفلسطيني من دون ان يجازف بمتطلبات التعبير الشعري وتقنياته المتصلة باللغة والتأويل والصورة المباغتة وضربة الختام. بدأت الأمسية الشعرية الثانية مع الشاعر الألماني من اصل روماني ارنست فشنر الذي بدت قصائده احتفاء عالياً بالطبيعة. بعده قرأ الشاعر المصري حلمي سالم قصيدتين من ديوانه"الغرام المسلح"احداهما عن المتنبي والاخرى عن طه حسين محاولاً ان يخرج الاول من عصره ليتحول الى قناع معاصر للغربة والتمرد وان يجعل من عمى الثاني ذريعة لقراءة العالم من الداخل قراءة تستعصي على المبصرين. أما الشاعر التركي عدنان أوزر فقد جسد في صوته ليس روح تركيا فحسب بل الحساسية المشرقية ازاء الحياة والطبيعة والعناصر موائماً بين الخارج والداخل وبين الذاتي والموضوعي في حركة جدلية دائبة. الشاعرة الليبية الشابة خلود الفلاح قرأت قصائد شديدة القصر قائمة على المفارقات التي تنجح احياناً في بلوغ هدفها"لأنهم أطلوا من الشرفة الخطأ / حرموا أنفسهم روعة المشهد"وتغرق احياناً أخرى في الوصف العادي النمطي"في نورها الثلاثين صادقت قمراً وطائرة ورقية". بعدها قرأ الشاعر الايرلندي ماثيو سويني قصائد سياسية تجمع على المستوى التقني بين القصة القصيرة والمشهد السينمائي. تحدث سويني عن طائرات الاستعراضات العسكرية في الاتحاد السوفياتي السابق، وفي حنين واضح الى زمن الاحلام اليسارية والاشتراكية. لكن اللافت تلك الليلة ان علي الشلاه اثناء قراءته للترجمة العربية سمح لنفسه بأن يستبدل جملة النهاية"وطارت الطائرة نحو الشرق"بالقول"وطارت الطائرة نحو الغرب"الأمر الذي دفع جمهور الحاضرين الى الاستحسان والتصفيق. وهو ما جعل الشلاه يوضح لاحقاً بأنه فعل ذلك في شكل متعمد لأنه وجد في الصيغة الثانية لمسة شاعرية تباغت المستمع اكثر مما تستطيع الصيغة الاولى ان تفعله. اما ختام الأمسية فكان مع الشاعر العراقي كاظم الحجاج الذي استطاعت اختياراته الموفقة للقصائد القصيرة ذات الضربات المباغتة ان تشد، على رغم الترجمة، انتباه الجمهور الغربي كما العربي على حد سواء. في مستهل الأمسية الثالثة قرأ الشاعر النمسوي الشهير روبرت شندل قصائد لافتة عن الحنين والنساء البعيدات وعن المرأة الشقراء الجالسة في مطعم القطار التي يتحول حضورها الى لحن داخلي رائع لكل الحواس. أما الشاعرة السورية المقيمة في باريس عائشة أرناؤوط فقد كشفت في قراءاتها عن لغة خاصة تجمع بين الشفافية والتأمل الداخلي ذي النبرة الصوفية. كما ظهرت في قصائدها نبرة من الحزن الذي حوله الابتعاد عن مسقط الرأس الى نوع من القنوط ونفض اليد من العالم. ثالث شعراء الأمسية كان الشاعر الفرنسي دانيال لوفيرس الذي قرأ بدوره بضع قصائد موزعة بين المكاشفة الرؤيوية والنقد السياسي الجارح للاستبداد والعولمة والهيمنة على مصائر البشر. الشاعرة السويسرية سابينا فانج أظهرت على رغم حداثة سنها قدرة عالية على توظيف المرئيات في سياق ميتافيزيقي. وقبل ان أقرأ بعض القصائد التي تولى ترجمتها الى الألمانية كل من لسلي ترامونتيني وغونتر أورت، في ختام الأمسية، قرأ الشاعر الفنزويلي ميغيل ماركيز قصائد مفعمة بالغنائية والصور المعبأة بالايحاءات والمتصادية مع روح الطبيعة، كما هو الحال مع العالم الشعري الاميركي اللاتيني على وجه العموم. لم تكن الحلقة الدراسية الوحيدة التي أقيمت في قاعة المركز الثقافي العربي السويسري في زوريخ بعنوان"الشعر والسياسة"بعيدة عن هموم الشعراء المشاركين والذين بدت توجهاتهم اليسارية المتضامنة مع نضال الشعوب الصغيرة من أجل الحرية واضحة للعيان تماماً. الا أن المداخلات المكتوبة التي سبقت الحوار ذهبت في اتجاهات مختلفة بما أظهر قراءات متغايرة للعنوان المطروح. فإذ ركز الفنزويلي ماركيز على دور الثقافة في عملية الاندماج الوطني وعلى اعتبار"الشعب هو الثقافة"مشيراً الى مشروعه الخاص بالنشر والهادف الى جعل الكتاب في متناول الجميع ميز الايرلندي سويني بين الشعر الرديء الذي يتكئ على السياسة وبين التوظيف الابداعي للقضايا الانسانية الكبرى. وقال إنه على رغم انصرافه منذ زمن عن القصائد السياسية يفكر الآن بالعودة الى هذا النوع بعد ان بلغت قوى الاستبداد في العالم ذروة هيمنتها ووحشيتها. كان ثمة أمسيات وقراءات اخرى في كل من لوتسيرن وبرن وجنيف ولوغانو. ولكن سفر معظم الشعراء الغربيين الى بلادهم بعد المحطة الأولى من المهرجان جعل الأمسيات اللاحقة تبدو عربية بامتياز وان كانت قد خالطتها مشاركات محدودة لأرنست فشنر وروبرت شندل في برن ولجوزيه فلورا تايبي في جنيف ولكاثي تسارنكين في لوتسيرن ولألبرتو نسي في لوغانو. لكن الحديث عن مهرجان المتنبي لا يمكن ان يستقيم بدون الحديث عن الدور المهم الذي قامت به اللجنة المنظمة للمهرجان وبخاصة أورسولا باخمان وتوبياس وخوانا بورغارت، كما عن المهرجان الآخر الذي أحيته الطبيعة في ارجاء تلك البلاد المتناهبة بين بياض الثلج وفتيت المطر وبين هندسة العشب وسطوح القرميد. فحيثما نظرت ترى تصاميم ورقعاً ملونة لعالم شبيه بعلب الهدايا وقصاصات الاحلام حيث تأنس كل مدينة الى كنف بحيرة وحيث الاشجار والورود بأنواعها تقلص المسافة بين الارض والفردوس. في لوتسيرن المحاطة بالجبال من كل جانب والغارقة في جمالها الضبابي الغامض لم يكن ثمة جمهور كثير كما لو ان الناس هناك لا يحتاجون الى الشعر الذي لن يضيف شيئاً يذكر الى جغرافية وجودهم المجازي.