عدت من زيوريخ حيث كان مهرجان المتنبي العالمي. رحلة استغرقت أكثر من اثنتي عشرة ساعة، غادرت فيها الفندق الساعة السادسة صباحاً ولم أصل الى منزلي في الظهران حتى الساعة العاشرة مساء. في مطار أمستردام وسط بلبلة اللغات واللكنات في تقاطع عالمي، كانت ما زالت تعلق بي ذاكرة الأيام الأربعة التي قضيتها في زيوريخ أحضر مهرجان المتنبي الشعري في حميمية القرب من عشرين شاعراً وشاعرة من البلاد العربية وأوروبا ولكل منهم لغته الأم وجميعهم يتكلمون الشعر. العربية والألمانية كانتا سائدتين... ثم تلك الأخرى الزائرة مثلنا" الفرنسية، والهنغارية، والبولندية، والتشيكية، والكرواتية، والكردية. مهرجان في بلبلة لغات مشابهة لبلبلة تقاطعات المطار العالمي. كنت أفكر في أصداء الزملاء الشعراء والشاعرات الذين تركتهم في زيوريخ وأشعر بالخجل من مضيفنا الشاعر علي الشلاه الذي نظم مهرجان المتنبي العالمي وأحسن الإشراف عليه. أوصلنا أنا والشاعر الهنغاري الى المطار في تلك الساعة المبكرة. أتذكر حياء الدكتور فارس وحماسة الدكتور محمد وكل الشباب الآخرين في المركز العربي السويسري "غاليري الأرض". كم كانوا صادقين في جهودهم للترحيب بنا. في دفء اللقاءات الشعرية الفكرية في مسرح جميل وحميم من مسارح زيوريخ تناسينا الانخفاض اللامتوقع لدرجة الحرارة الى اثنين فوق الصفر والثلج المنهمر في الشوارع. وعلى مدى ثلاث أمسيات أصغينا الى القصائد بلغاتها الأم ثم مترجمة الى الالمانية بإلقاء محترفين. وفي النهار جاءت الندوات عن تأملاتنا الفردية في تجربة "الشاعر" من حوار الحضارات. أبناء أمي العرب... أتاحوا تلك الطمأنينة الدافئة في لغتنا الأم. أدونيس الرمز الذي لامست حقيقته الإنسانية الشاسعة الاحتواء وجدته أجمل مما سمعت عنه في بلبلة المتلقين والنقاد. أمجد ناصر ينسى تجهمه السياسي مرتدياً ضحكته الصاخبة وهو يصر مترفقاً "لا تنزعجي... انا أمزح دائماً". فوزي كريم الأنيق دائماً ينطق شعره ووجهه وصوته الجميل وبوحه بمأساة وطن لم يعد ظهره الذي كان شامخاً يوماً درعاً لبنيه اليوم في معاناتهم عبر اصقاع الأرض القاسية. أحمد الشهاوي تجمع ابتسامته النابعة من القلب حنان أخ ووعي أب وشفافية شاعر وطلاقة عربي يعشق لغته. حسن اللوزي مقل في كلامه إذ هاجمته برودة الجو في حلقه مباشرة، وراح يعاندها منطلقاً يرسم حلمه في قصيدة شعر تلغي صلادة الجدران المختلفة. فوزية السالم الشويش امرأة يثلج قلبي طموحها، خليجية روائية، مسرحية فنانة تشكيلية، وها هي اليوم تقدم نفسها شاعرة ذات حضور. ميسون صقر وجه طفولي جميل وروح طفولية في أعماقها، ثم تفصح قصائدها أكثر، تعشق الحياة بأنثوية امرأة من الخليج وتبوح ببراءة لا تنجح المواربة في اخفاء شقاوتها. واكتشافي الجميل الشاعر عبده وازن الذي فاجأني بهدوئه ولطفه وقد تخيلته - بعد ضجة "حديقة الحواس" - صاخباً ضاجاً. فرياد عمر فاضل الزائر من برلين أدهشني بالمعاجم التي ألفها، وفوزي الدليمي الفنان الشديد الهدوء يشاركني تفاعله بما سمع من نصوص، وعرفان رشيد الآتي من ايطاليا يحمل معدات التصوير يسجل لحظات أخالها ستدخل التاريخ حتماً... هؤلاء وجدوا فرصة للحوار بالكردية مستمتعين بدهشتي ان لم أميزهم من أشقتي العرب إذ طاولتهم معاناة الوطن الممزق نفسها. ثم أولئك الشعراء والشاعرات محاصرين بلغاتهم التي لا أستطيع فض أوعيتها... اسعفتنا بعض الانكليزية منهم وابتسامات متسعة. أيام أربعة جاءت بكل ما لم أتوقع... حوارات صافية دافئة... ونقاشات جادة... وشهادات متعمقة... وثلوج هطلت في نهاية نيسان ابريل وكأنها قررت ان ترحب بكل هؤلاء الشعراء العرب بصفة خاصة وهم المعروفون بالتغني بالمطر. فكيف إذا جاء ثلجاً ناصعاً يهزأ بدفء ربيع روتيني. والشعر؟ ومحتوى القصائد؟ وأسلوبها؟ الشعر!... ليقل ما يشاء...وقفت عند كل تفاصيله ثم لم يبق معي منه بكل اللغات الا لغة القلب وملامح الإنسانية المشتركة.