سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أزمة اكتظاظ في المحاكم العسكرية في الدولة العبرية ضحاياها المعتقلون الفلسطينيون . قاض إسرائيلي يشهر بأساليب تحقيق "الشاباك" وضابط فلسطيني يموت قبل ان تصل براءته الى الحدود
كان قراراً قلما شهدته المحاكم العسكرية الإسرائيلية من قبل. رئيس المحكمة، شاؤول غوردون، يصادق على طلب القاضية، داليا كاوثمان، عقد جلسة محاكمة للطعن في عقوبة أسير فلسطيني في سجنه في عسقلان بدل المحكمة العسكرية في معتقل عوفر. فالاسير، شيخ معتقلي انتفاضة الأقصى، بدران جابر 63 سنة يعاني مشكلات صحية لم يتمكن بفعلها من الوصول الى المحكمة. ومواصلة اعتقاله في الظروف الحالية تشكل لائحة اتهام ضد إسرائيل. القرار لم ينفذ والسبب رفض، وهو ما اضطر المحكمة الى تأجيل عقد الجلسة الى موعد آخر. ولكن لماذا الرفض؟ فإلى جانب الموقف الحاسم والدور الكبير للنيابة العسكرية في المحاكم الإسرائيلية، هناك سبب إضافي يتمثل في ضغط العمل الهائل والنقص الكبير في القوى العاملة في المحاكم الإسرائيلية. فالنيابة، بكل بساطة، لم تجد أي ممثل عنها يتفرغ للوصول إلى سجن عسقلان والفلسطيني... وعلى السجين مع كل ما يتعرض له من معاناة، الانتظار. بدران جابر، يعاني ضغط الدم والسكري وقد انتظر بفارغ الصبر موعد جلسة المحاكمة، الأهم، والتي سينطق فيها بالحكم. فمحامية الدفاع نائلة عطية تطالب بالإفراج عنه والاكتفاء بفترة اعتقاله وهي أربع سنوات، لكن بدران كمئات المعتقلين الفلسطينيين الذين تكتظ بهم المعتقلات الإسرائيلية والمحاكم العسكرية، إثر حملات الاعتقالات الواسعة التي ينفذها الجيش الإسرائيلي، عانى من الأوضاع التي تمر بها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية جراء تطورات الأحداث الأخيرة. محاكمة بسرعة البرق عندما نتحدث عن محاكم عسكرية، فإننا نجابه نيابة عسكرية وفي بعض الأحيان"براكيات"غرفها كبيرة ومحاطة بأسوار، أقيمت للنظر في قضايا تهم الجيش، بعضها محاكم عسكرية لجنود الجيش الإسرائيلي ومعظمها مخصصة للبت في ملفات الفلسطينيين الذين يقاومون أو يتهمون بمقاومة الاحتلال، وتعرف في إسرائيل بالقضايا الأمنية. القضاة فيها هم ضباط في جيش الاحتياط من حملة شهادات المحاماة أو محامون من الجيش النظامي. اليوم هناك محكمة سالم العسكرية الواقعة على مشارف مدينة جنين والمحكمة العسكرية في عوفر والتي كانت أساساً في بناية المقاطعة في رام الله وعند تسليمها الى الفلسطينيين حولت الى مكاتب لرئاسة السلطة والاستخبارات والشرطة ولمحافظة رام الله. وفي سجن أنصار 3 كتسيعوت في النقب أقيمت محكمتان: واحدة لتمديد الاعتقال وأخرى للاستئناف. بعد اتفاقية أوسلو تحولت كل المحاكم العسكرية داخل السجون أو داخل الضفة الغربية الى"براكيات"باعتبار ان المسألة موقتة ولا حاجة الى إقامة مبان خاصة بها. ومع استئناف الحملات العسكرية المتواصلة وارتفاع عدد المعتقلين بات الوضع أكثر صعوبة، ما يهدد اليوم بانهيار حقيقي. فلا قضاة قادرين على تحمل الضغط اليومي الذي يصل في معظم الأحيان الى معالجة مئة ملف في يوم واحد. ولا أعداد كافية من المدعين العسكريين ولا حتى عناصر الشرطة الحراس الذين يرافقون المعتقل الى المحكمة. وبالتالي تكون الضحية الأولى المعتقل الفلسطيني ثم محاميه الذي تقفل كل الأبواب أمام تمكنه من القيام بواجبه في الدفاع الحقيقي عن موكله وإظهار الحق. الإحصاءات الفلسطينية تشير الى وجود ما لا يقل عن 1400 ملف في المحاكم للمتابعة، والجيش يقول ان هناك 1003 معتقلين، وفي الحالين هناك عجز عن معالجة كل ملف في الشكل المطلوب. وبمثل هذه الحال يكون الهم الأكبر للجميع ان تنتهي المحكمة بسرعة البرق مهما كانت النتائج. 90 يوماً من دون معرفة تهمته منذ الانتخابات الفلسطينية وتكليف"حماس"تشكيل الحكومة الفلسطينية، استأنفت إسرائيل حملات الاعتقالات في الأراضي الفلسطينية، بل أخرجت عشرات الملفات لفلسطينيين، وهم من المطلوبين أصلاً، وكان اتفق على شطب أسمائهم من القائمة قبل اشهر من الانتخابات الفلسطينية في ظل الهدوء الذي ساد الأراضي الفلسطينية والهدنة بين الفصائل، وفي أعقاب اتفاق شرم الشيخ بين رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق آرييل شارون، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. ويكثف الجيش من اعتقالاته في الضفة الى حد لم تعد معه المعتقلات والسجون الإسرائيلية تتسع للمزيد، ما استدعى مبادرة المسؤولين الى البحث في اقتراح للإفراج عن عدد من الأسرى الذين لم يبق إلا فترة قصيرة من محكوميتهم، كوسيلة للتخفيف من هذا الضغط. المحكمة العسكرية"عوفر"مثل صارخ عما يعانيه المعتقلون وأهاليهم ومحاموهم، فقد تحولت مع بقية المحاكم العسكرية الى شبه ساحة قتال تجري فيها مواجهة الاحتلال بشتى قساوته. عشرات الأهالي يتوافدون إليها منذ ساعات الصباح ليملأوا الساحة المجاورة للمعتقل وكذلك قاعات المحكمة. أمهات وآباء مسنون ونساء حوامل وأطفال رضع وآخرون عانوا السفر الطويل ودرجة الحرارة المرتفعة والانتظار لمشاهدة آبائهم أو أشقائهم المعتقلين. أمهات تحملن مشاق سفر مسافات طويلة قطعنها لمشاهدة أبنائهن لدقائق معدودات. يكفي لتلك الأم أن تطمئن على ابنها بمشاهدته يسير على أقدامه أمامها، ولأخرى أن تشاهد ابتسامته وتبادله التحية. فالإجراءات المشددة تمنع منعاً باتاً لمس أي أسير أو تقبيله وتلزم الأهالي البقاء على بعد خمسة أمتار على الأقل عن الأسرى الذين يصلون الى المحكمة وهم محاطون بحراسة مكثفة. أما في داخل المحكمة، فتظهر المعاناة الحقيقية للمعتقلين النابعة من الضغط ومن ازدحام الدعاوى. الملفات متراكمة أمام القاضي الذي يبدأ عمله منذ الثامنة صباحاً ويستمر حتى السادسة مساء. عشرات المعتقلين ينتظرون بفارغ الصبر موعد جلستهم وأحياناً كثيرة يعود المعتقل الى سجنه من دون ان يتوافر الوقت لبحث الملف كما يتطلب الأمر، ما يجعل مثول المعتقل في المحكمة أمراً شكلياً. الضغط الكبير لا يقتصر على أعمال المحكمة والقضاة. فمن يريد أن يعرف حقيقة الحملات العسكرية والاعتقالات عليه متابعة أعمال النيابة العسكرية وسياستها في المحاكم. فهذه تعاني اليوم نقصاً كبيراً في القوى العاملة، وهذا يعني عدم القدرة على النظر في الملفات التي انتهى التحقيق إليها واعداد لوائح اتهام ما يؤدي الى تأجيل المحاكمة ليقضي المعتقل الفلسطيني فترة طويلة، تصل الى تسعين يوماً من دون أن يعرف التهم الموجهة إليه. وفي محاولة للتخفيف من عدد هذه الملفات تعقد الصفقات السريعة وفيها يضطر المعتقل للاعتراف بتهم لم يرتكبها، لكنه يتجاوب مع ضغوطات النيابة التي تريد إزالة هذا الملف من كومة الملفات المتراكمة. مثل هذه الممارسات لم تعد مجرد حديث أو كلمات يطلقها المحامون وتكتب في الإعلام، فهي حقيقة مسجلة اليوم في المحكمة وبتأكيد من ثلاثة قضاة على رأسهم نائب رئيس المحكمة العسكرية في عوفر، رونين عتصمون. فقد خرج هذا القاضي عن التقاليد القضائية الإسرائيلية، فهاجم النيابة العامة العسكرية وكتب يقول في قرار تبرئته للمعتقل عرفات محمد العملة من بيت أولا، قضاء الخليل انه"لا يمكن تبني اعترافات الأسرى الفلسطينيين كما هي عليه الآن والاعتماد عليها فقط في الإدانة لأن الشاباك كان وما زال يستخدم أساليب كثيرة ووسائل تحقيق تجبر المستجوبين أي المعتقل الفلسطيني على الاعتراف بأشياء لم ينفذها". ويضيف عتصمون:"تحقيق الشاباك الاستخبارات الإسرائيلية يتم في ظروف تثير الشك بصدقيتها. فقد بات هم المحققين ان يعترف المعتقلون وهذا يتم بعد ضغط كبير ينفذ عليهم. من الصعب ان نقدر ما يجول برأس الفلسطيني المعتقل الموجود في جلسة تحقيق على أيدي أجهزة الأمن الإسرائيلية". إنها المرة الأولى في تاريخ المحاكم العسكرية التي يعترف فيها قاض إسرائيلي بأساليب التحقيق والضغوط التي تمارس على الأسرى الفلسطينيين. هذه الأساليب كانت معروفة منذ سنوات وزادت عند اندلاع الانتفاضة الأخيرة لكنها تضاعفت خلال الأشهر الأخيرة، وبالتحديد بعد حملات الاعتقالات الكثيرة للفلسطينيين والضغط الهائل الذي بدأ يواجهه المحققون في غرف التحقيق والاعتقال. والضغط في غرف التحقيق لا يقتصر على إلزام الفلسطيني بالاعتراف بتهم لم يرتكبها، والأخطر من ذلك يكمن في التعذيب الذي يتعرض له الأسرى عموماً والذي يتضاعف من جراء الحال العصبية التي تولدها حال الضغط. ومثل هذا الأمر انعكس في شكوى قدمت، الأسبوع الماضي، من قبل معتقلة فلسطينية شابة في الرابعة والعشرين من عمرها من قرية بيتا، قضاء نابلس. هذه الشابة اعتقلت منذ مطلع الشهر، وكما روى والدها فقد وصلت قوة كبيرة معززة بالجيش الى بيته في ساعات المساء لاعتقالها. وقال:"فأصيبت ابنتي بحال رعب وخوف وأصرت على أن ترافقها شقيقتها التي تكبرها سناً. فقد راحت تبكي وترتجف وتصرخ بأنها تخاف من الجيش. وكل المحاولات لاعتقالها وحدها لم تنفع حتى وافق قائد الوحدة ان يأخذ شقيقتها معها. نقلت الشقيقتان إلى معسكر حوارة جنوب نابلس ومكثتا طوال الليل مكبلتي الأيدي والأرجل."طوال الليل وأنا أتعرض للركل من قبل الجنود وكلما مر أحدهم من أمامي كان يركلني وآخر يوجه لي شتائم لا يمكن تحملها. في الصباح اقترب أحد الجنود مني وضربني بقضيب حديد على رأسي فأغمي عليّ. نقلت المعتقلة الى الرملة، داخل الخط الأخضر وقضت هناك مدة أسبوع من دون أن يصلها أي من محققي الشاباك الى أن وصلت محاميتها، نائلة عطية الى محكمة جنين لكنها حتى اليوم لا تعرف التهمة الموجهة ضدها فلم يحقق معها من أي جهة، والسبب ان أحداً من محققي الشاباك لم يتفرغ بعد بسبب الانشغال في التحقيق في الملفات"الأكثر سخونة". في جلسة المحكمة الأولى، طلبت النيابة تمديد اعتقالها لمدة شهر كي يتسنى للمحققين إجراء التحقيق معها. وبعد مناقشات مع محامية الدفاع تم الاتفاق مع المحكمة على تمديد اعتقالها لمدة أسبوعين. وتقول عطية، التي تترافع عن عدد من معتقلي حملات الاعتقالات الأخيرة، ان الأوضاع التي تعيشها المحاكم والنيابة ومحققو الشاباك تعكس حالاً من الانهيار الداخلي الذي يكون فيه المعتقل الفلسطيني الضحية الأولى. وتضيف:"الأعداد الكبيرة التي تصل الى المحاكم تجعل وراء كل ملف قصة فصولها تتحدث عن معاناة حقيقية للمعتقل". وتضيف:"منذ لحظة الاعتقال تبدأ معاناة الفلسطيني. فمعسكرات الاعتقال"عوفر"وپ"الحوارة"وپ"مجيدو"وپ"غوش عتصيون"مكتظة بالمعتقلين وهذا الاكتظاظ يعني حالاً من التوتر الدائم بين المعتقلين من جهة وبين الجيش والمحققين من جهة أخرى، الأمر الذي ينعكس في الشكاوى الكثيرة التي نتلقاها من المعتقلين حول معاملة الجيش القاسية لهم، من اعتداءات وإهانات وشتائم. فهؤلاء ينتظرون طويلاً في المعسكر الى حين حضور محقق من الشاباك للتحقيق معهم والى ان ينتهي التحقيق ويتقرر تحويله الى المحكمة العسكرية تقتصر مهمة الجيش على حراسة هؤلاء المعتقلين. وقد ولدت الاعتقالات اليومية حال اكتظاظ لم يعد معها أي طرف قادراً على التحمل. والمعتقل يكون الضحية الأكبر إذ يبقى حتى انتهاء فترة التحقيق شبه معزول عن العالم الخارجي، ثم توضع الصعوبات أمام المحامي الذي يتوكل للدفاع عنه. فالقضاة يوقعون على طلبات تمديد الاعتقالات التي تصلهم، غالباً من دون أي اعتراض. ونادراً ما يرفضون طلب ممثل الاستخبارات بتمديد الاعتقالات في فترة التحقيق. وتعطي الاستخبارات المهلة القصوى حتى إنهاء التحقيق، عندها يتحول دور المحامي، في هذه المرحلة، الى هامشي جداً وغير مجد في قاعة المحكمة". أما الأسلوب الأكثر خطورة الذي تنتهجه إدارة السجون مع الأسرى والذي يعتمد كوثيقة إدانة، فهو ظاهرة"العصافير"في المعتقلات. فقد عادت هذه الظاهرة لتتزايد هذه الفترة كأسهل طريقة لضمان إفادة موقعة من الأسرى. تضع إدارة السجن الأسير في غرفة كبيرة فيها لا يقل عن عشرة من"العصافير"المخبرين وهم في الأساس من العملاء الذين يوهمون المعتقل بأنهم من قادة التنظيمات الفلسطينية ويدفعونه الى الاعتراف. ويقع الكثيرون من الأسرى في شباك"العصافير"ويخطون تفاصيل تتحول الى أدلة قاطعة ضدهم. فتقدم الى المحكمة كدليل لإدانتهم. الموت أسرع من إجراءات النيابة 1400 معاناة خلف الملفات التي تبحثها المحاكم العسكرية. ولعل ملف الأسير محمد أبو حلاوة 54 عاماً، الضابط في الأمن الوطني، هو من الملفات التي تعبر بدقة عن حال الأسرى. فقد اعتقل أبو حلاوة لدى عودته من زيارة زوجته وأولاده في عمان ووجهت إليه تهمة محاولة قتل جنود إسرائيليين. وادعى الشاباك أن أبو حلاوة أوعز الى جنود من الأمن الوطني أن يطلقوا النار باتجاه الجيش وهذا يعني انه أضيف الى قائمة المطلوبين. بعد عامين من عقد جلسات المحاكم صدر قرار بتبرئته لكن النيابة استأنفت القرار، على رغم ما قدم لها من تقارير طبية حول وضعه الصحي المتدهور والذي اشتد وهو في السجن. النظر في الاستئناف تطلب ستة اشهر حتى أصدرت المحكمة العسكرية القرار وفيه تجاوبت مع محامية الدفاع، عطية، بالإفراج عنه ولكن معاناته استمرت الى ما بعد الإفراج عنه. فقد قرر أبو حلاوة السفر الى الأردن لزيارة عائلته ولكنه منع من ذلك والسبب ان ظروف الضغط التي في النيابة العامة العسكرية أدت الى عدم إبلاغ جهاز الاستخبارات بشطب اسمه من قائمة المطلوبين. وكل المحاولات التي بذلها أبو حلاوة ليجتاز نقطة العبور وكذلك محامية الدفاع لم تجد نفعاً. فكان يصل الى الحدود ثم يعود أدراجه الى رام الله على أمل ان تتحرك النيابة وتنفذ ما يتوجب عليها، لكن الموت كان أسرع من تحقيق أمله فقد تدهورت حاله الصحية وتوفي بعيداً من عائلته... والنيابة ما زالت تبحث عن الوقت لتنفذ قرار براءته.