لقد مزج التصور القرآني للشعوب ولعلاقات بعضها ببعض، بين الوحدة والتنوع، فهناك أرومة واحدة تجمع البشر، وأصل واحد ينبثقون عنه، كما ان هناك تنوعاً عميقاً داخل هذه الوحدة، وقد قابل هذا التصور النظري اعتراف عملي بالتنوع"العرقي والديني والثقافي"الذي زخرت به"دار الإسلام"وانطوت عليه، فلم ير المسلمون فيه عائقاً للوحدة، في المقابل هناك تنوع واختلاف بينهم وبين الآخر لم يدفعهم الى القطيعة او الحذر من التواصل، لأنهم تعلموا من الإسلام ان هناك بالأساس اختلافاً بين الكائنات والناس واللغات والأديان، وهو شرط للتعاون، فالله خلق البشر من ذكر وأنثى"وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى"النجم: 45 وأيضاً"ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم"الروم: 22 ودينياً"هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن"التغابن: 2 وخلقهم مختلفين ليتعارفوا، إذ ناداهم بقوله:"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ان الله عليم خبير"الحجرات: 13، وهذا الاختلاف بين الشعوب يبدو ضرورياً، في هذا التصور، لإغناء التجربة البشرية"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً"الحج: 40. وقد كان الناس في الأصل أمة واحدة، تفرع التنوع عنها، حيث مرجعهم جميعاً الى آدم"وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة"الأنعام: 98 ثم تفرقت الى شعوب، إلا ان هذا التفرّق يجب ان ينسينا ما يجمع بيننا من وحدة، فقد أتى الإسلام كتذكرة واستعادة غير مسبوقة لهذه الوحدة، التي يذخر بها هذا التنوع، وذكّر الجميع ان مجال التفاخر الوحيد هو طريق التقوى، وليس التفاخر بالأنساب"يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"الحجرات: 13. وقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع:"أيها الناس... إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى". وشملت هذه الدعوة الى المساواة والأخوة الإنسانية جميع الناس، بما فيهم البيض والسود، فالفضائل تمأسست هنا على قاعدة قرابة الفرد الى الله وإلى جماعة المؤمنين، من طريق إظهار ورعه وتقواه، أما اللون والجنس والمراتب الاجتماعية فهي مسائل ثانوية امام هذا القياس الجديد للقيمة. من هنا، فقد تبوأ الكثير من الشخصيات السوداء أو الحبشية في العهدين النبوي والراشدي مرتبة روحية فائقة في اطار تاريخ نهضة الإسلام الروحية والخلقية، وأضحت رموزاً لا يُستغنى عنها في الرواية الدينية لبزوغ الإسلام، بما فيه السيرة النبوية، أمثال بلال مؤذن الرسول، وسعيد بن جبير الذي قال فيه الناس"كلنا محتاج إليه"، وعطاء بن رباح، وآل ياسر الذين خاطبهم النبي اثناء اضطهاد قريش لهما:"صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة". ولقد تكررت تلك النزعة المساواتية، التي آخت بين السود وغيرهم، من طريق التأليف النظري ولا سيما عند أبرز الفقهاء المسلمين، فظهرت العديد من المؤلفات التي عدّدت فضائل السود، ومن أبرزها:"تنوير الغبش في فضل السودان والحبش"لابن الجوزي 597ه - 1193م وپ"رفع شأن الحبشان"للإمام السيوطي ت 911ه - 1505م حيث اقتبسه من ابن الجوزي، وأعقبه برسالته الأخرى"أزهار العروش في أخبار الحبوش"، ثم برسالة ثالثة بعنوان نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسود والسمر"، كما وضع محمد عبدالباقي البخاري ت991ه - 1587م رسالة باسم"الطراز المنقوش في محاسن الحبوش"اعتمد فيها على"أزهار العروش"للسيوطي. وكان الجاحظ 150 - 255ه المؤلف الموسوعي الكبير، قد وضع رسالة باسم"فخر السودان على البيضان"، أبرز فيها فضائل السود ومحاسنهم وصفاتهم الإيجابية، وتبعه ابن المرزبان في الحقبة نفسها برسالة"فضل السودان على البيضان". ويجمع الجاحظ في رسالته"فخر السودان على البيضان"بين دور السود الروحي الإسلامي، وأعزاز النبي والصحابة لهم، وبين دورهم في تاريخ التقوى الدينية، وفي مجال العمران، فدوّن ما سمع من أقوال عن السودان، أو محاورات ومناظرات عنهم، أو أحاديث وقصص، وما يروى عنهم من نوادر، وقد قدّم ذلك كله بما يُروى عن النبي والصحابة من أقوال عنهم. فيذكر ان"لقمان الحكيم منهم"، كذلك"سعيد بن جبير"الذي كان"أورع الخلق وأتقاهم، وأعظم اصحاب ابن عباس"، كما كان"منهم بلال الحبشي رضي الله عنه"الذي قال فيه عمر بن الخطاب"هو ثلث الإسلام"، ومنهم مهجع وپ"هو اول قتيل في سبيل الله"اذ قتل في غزوة بدر، ومنهم ايضاً"جليب"الذي قال عنه النبي، بعد مقتله"هذا مني وأنا منه ثم حمله على ساعديه، حتى حفروا له... ما له سرير غير ساعدي رسول الله"صلى الله عليه وسلم. ولقد حرص كل من ابن الجوزي ت255ه - 869م، والسيوطي، والبخاري ت911ه - 1509م في رسائلهم عن فضائل السود، تبيان وإظهار الدور الكبير للسودان - الأحباش في التجربة التقوية الإسلامية، وفي رفع شأن الإسلام، ومظاهر الرفعة التي خصها نبي الإسلام لرجالهم، فالسيوطي ينسب الى النبي قوله:"بأن"الخلافة في قريش، والحكم في الأنصار، والدعوة في الحبشة"، فالوظيفتان الأساسيتان في مسجد المدينةالمنورة كانتا"الإمامة"وپ"الأذان"، الأولى للنبي والثانية لبلال بن رباح الحبشي، وله الفضل في الأذان فوق ظهر الكعبة في مكة، كما انه أذّن في بيت المقدس عند دخول المسلمين إليها في عهد عمر بن الخطاب. ويروى ان النبي قال لرجلين - أحدهما حبشي وثانيهما قبطي - كانا يتنابذان، ويعيّر واحدهما الآخر بجنسه:"إنما أنتما من آل محمد"ناكراً التفرقة التي يعلنونها لصالح أخوة الإيمان الإسلامي. كما يروى عن النبي انه بشّر بالجنة كلاً من: عمار بن ياسر وبلال، بعد ان قرن اسمهما باسم علي بن ابي طالب حين قال:"اشتاقت الجنة الى ثلاثة: الى علي، وعمار ابن ياسر، وبلال... وإن بلال سيُبعث على ناقة من نوق الجنة، فينادي بالأذان، فإذا بلغ وأشهد أن محمداً رسول الله شهدت بها جميع الخلائق". وروى المحدثون انه عندما دخل المسلمون مكة فاتحين، أذّن بلال على ظهر الكعبة، فقال بعض الناس يستكبرون الأمر على بلال:"هذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة؟! فأنزل الله الآية"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". كما ذكر الرواة ان آبا بكرة نفيع بن مسروح وهو اسود حبشي، مولى الحارث"كان من فضلاء الصحابة وصالحيهم. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مئة واثنين وثلاثين حديثاً"، كما ان احباشاً كانوا من الصحابة المقربين، مثل"الصحابي نابل الحبشي، وأبو لغيط الحبشي مولى النبي، وذي مخبر الحبشي وكان يخدم النبي، وأم ايمن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومولاته واسمها بركة روت عن النبي، وروى عنها أنس بن مالك"، ومعهم ايضاً عطاء بن ابي رباح، اشتهر بعلمه، قال عنه ربيعة:"فاق عطاء أهل مكة في الفتوى... وكان بنو امية يأمرون في الحج صائحاً يصيح: لا يفتي إلا عطا بن ابي رباح". ويروى ان رجلاً من الأحباش سأل النبي:"أرأيت إن آمنت بمثل ما آمنت به، وعملت بمثل ما عملت به إنني لكائن معك في الجنة؟ فقال النبي: نعم... فمن قال لا إله إلا الله كان له بها عهد عند الله، فقال الحبشي: وهل ترى عيني في الجنة ما ترى عينيك؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. فبكى الحبشي حتى فاضت نفسه..."، ويروي ابن عمر انه رأى النبي يحمل الرجل الحبشي"ويدليه في حفرته". كما يروى عن أنس ابن مالك، انه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأبي ذر الغفاري:"اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة"، وهو قول فسّره البعض بأنه يجيز تنصيب الحبشي الأسود إماماً، وعندما عيّر أبو ذر الغفاري بلالاً مؤذن الرسول بقوله:"يا ابن السوداء، فأتى بلال النبي وأخبره. غضب النبي من أبي ذر، وقال له: أنت الذي تعيّر بلالاً بأمه!... والذي أنزل القرآن على محمد ما لأحد على أحد فضل إلا بعمل". وذكروا أن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري عيّر عمر بن الخطاب إذ قال له: يا ابن السوداء، فنزلت الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيراً منهم". الحجرات: 11، ويروى عن النبي قوله:"سادة السودان اربعة: لقمان، والنجاشي، وبلال، ومهجع". ولقد احتلت هجرة المسلمين الأوائل الى الحبشة مكاناً راسخاً في الذاكرة الإيمانية الجماعية للمسلمين، اذ كرّست صورة زاهية للنجاشي وأجمعت الروايات كلها على تبجيل دوره واستجابته لدعوة النبي الى الإسلام. وذكر بعض المفسرين انه نزلت في النجاشي الآية الكريمة"ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى". وروي عن انس انه لما جاء نبأ نعي النجاشي، أي موته، قال النبي:"صلوا عليه. قالوا: أيا رسول الله، نصلي على عبد حبشي؟ّ فأنزل الله الآية"وإن من اهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أُنزل إليكم وما أُنزل إليهم خاشعين...". * كاتب سوري