خروج الحكومة العراقية الجديدة الى النور يستحق الشهادة اجمالاً وتفصيلاً. أما الشهادة الإجمالية فهي للصفة الوحدوية الوطنية الغالبة على هذه الحكومة، والتي كان يمكن أن تكون أشد ظهوراً وعمقاً لولا انها اضطرت لمراعاة الاستحقاق الانتخابي أولاً، ذلك أن صناديق الاقتراع هي أحد وأهم المعايير في تحديد الإرادة الوطنية، لكنها ليست المعيار الوحيد، لأن العملية السياسية لها قواعد وآليات ذات طابع فئوي على مقدار من العصبية الحزبية أو غيرها، ويبقى في أي مجتمع عريق قوى سياسية واجتماعية بعيدة عن الاستقطاب الفئوي، وعلى مستوى من الكفاءة والإرادة الجادة للمشاركة في بناء الدولة، وهذه القوى أو أكثرها تبقى لأسباب عدة، بعيدة عن الاستحقاق الانتخابي، لكن الديموقراطية، بمعناها الواسع، تقتضي أن يُحسب لها الحساب في بناء الدولة، خصوصاً في حالات الاستقرار، ما قد يعني أنها قد يتم تجاوزها كلياً أو جزئياً في حالات الضرورة، كما هي حالة العراق، الذي يعيش انفجاراً ديموقراطياً متوتراً، لا يسمح بالاستيعاب الكامل للمعطيات السياسية، فيلجأ تحت ضغط الضرورة الى العمل بالميسور والمتحقق أي الاستحقاق الانتخابي حتى لا تتعطل العملية السياسية وتتفاقم الفوضى الإدارية والارهاب فتفوت على الجميع فرصة الشروع في بناء الدولة والمجتمع. القراءة المتأنية لأسماء الوزراء تساعد المراقب المنصف على اكتشاف سعي المسؤولين العراقيين، من مهندسي التشكيل الوزاري، على الخروج الجزئي على موجبات الاستحقاق الانتخابي، يبقى أن تحقق هذه الحكومة الاستقرار المنشود، ليتمكن العراق لاحقاً من متابعة انجاز دولته على أساس المعايير المركبة من الانتخابات والاعتبارات السياسية العامة والاجتماعية والعلمية ولتصبح الوحدة على مستوى الدولة انعكاساً توحيدياً للتعدد الاجتماعي والسياسي، الذي تحتضنه الدولة الجامعة وتديره على أساس استقطاب الوحدة الخالية من أوهام الغاء أي طرف من أطرافها، وبذلك يتراجع التحفظ العربي عن صنيعة الفيديرالية، التي تصبح في هذه الحال علاجاً لوضع العراق أكثر مما هي مشروع للتظهير السياسي والإداري للمتعدد العراقي. لا بد من أن يعترض معرض على هذا الوصف للوحدة المفترضة في تشكيل الحكومة العراقية، ويمكن أن يستشهد بخروج قائمة الحوار العراقي صالح المطلك من التشكيل الحكومي وحجبها الثقة، واذا كان صحيحاً أن الإجماع أشد دلالة على الوحدة وتوكيداً لها، فإنه في المسلك الديموقراطي ليس لازماً. وفي كثير من الأحيان يكون الإجماع صعباً بحيث يستلزم لتحقيقه جملة من التواطؤات التي تخل بالعملية السياسية وتعيقها، غاية الأمر أن الأكثرية كمعيار ديموقرطي يجب أن تصل في ديموقراطيتها الى النهاية، أي الى عدم إلغاء الخارج من السياق أو المعترض أو المقاطع، حتى لو كان سلوكه أقرب الى الشغب السياسي منه الى الاعتراض المنطقي. هذه شهادة اجمالية للحكومة العراقية وهناك شهادات تفصيلية، منها الشهادة للمرجعية الدينية الشيعية التي ضغطت بشكل مسؤول ومن دون تخط لموقعها الإرشادي والعراقي الوطني، من أجل التسوية وانجاز التكليف والتشكيل، وعلى المسار نفسه سارت المرجعية العلمانية السنية، وان كانت هناك من ملاحظات فهي تتناول التفاصيل التي لا يخلو منها أي تشكيل يتعاطى مع الشأن العام. ومنها الشهادة لرئيس الوزراء نوري المالكي الذي أظهر قدرة على التفاوض وتقريب المسافات وتنظيم التنازلات بين الأطراف المختلفة، منذ بروز اشكاليات تكليف الدكتور ابراهيم الجعفري، الى اشكالية التشبث بأسلوب المحاصصة في توزيع الحقائب كماً وكيفاً، وقد أثر عنه خلال هذه العملية احترامه اشديد وحرصه القوي على موقع الدكتور الجعفري الذي يجمع الجميع على كفاءاته ومواهبه المتعددة والتي تفوق موهبته في ادارة السلطة التنفيذية، ومنها الشهادة للمجلس الأعلى وقائده عبدالعزيز الحكيم ومرشحه لرئاسة الوزارة نائب رئيس الجمهورية الدكتور عادل عبدالمهدي، اللذين لو كان أصرا على الانطلاق من الأحجام السياسية والشعبية في اختيار رئيس الحكومة من جانب الائتلاف، لكانا حققا ما يريدان، لكنهما آثرا الوحدة على الرئاسة، لشعورهما بأن الربح في التوافق أكبر بكثير من أي ربح هو أقرب الى الخسارة عندما يتم بالتنازع. ومنها شهادة لقائمة التوافق السنية التي أثبتت شعورها بالمسؤولية تجاه العراق واستقراره ووحدته وتحقيق شروطه الداخلية تمهيداً لاستكمال استقلاله وسيادته. ومنها الشهادة لأكراد العراق الذين أثبتوا أنهم اكتسبوا خبرة ومهارة سياسية وادارية عالية من تجربة الحكم الذاتي، ما يؤهلهم الى دور متقدم وفاعل في وحدة العراق دولة ومجتمعاً، هذا مع إلحاح المخلصين لهم والمعجبين بهم في الدعاء بألا يغريهم ذلك بالنزوع نحو ما هو أبعد من الفيديرالية التي هي أقرب الى اللامركزية على أساس المركزية في العراق الذي لن ينهض إلا مجتمعاً بكل مكوناته. ان الرصيد الكردي لا يمكن أن يسلم وينمو إلا من خلال الشراكة العراقية، ومثله الرصيد العربي، وهذه الثنائية الأبرز في حالة العراق هي مصدر حيوية ودينامية تتحمل وظيفة حضارية عظيمة يجب الإصرار على انجازها بالشراكة. وإلا فالجميع خاسرون. يبقى أن العرب في العراق هم بين خيارين، بين قسمة عروبتهم الى سنية وشيعية حتى يلغي كل طرف منها عروبة الآخر بالحصرية أو التنصل في مقابل هذه الحصرية، وبين تحويل عروبة الانتماء الى جامع يقدمونه معاً للعرب دولاً وشعوباً نموذجاً للإسلام الجامع والعروبة الحاضنة، وعندئذ يمكّنون العرب من تعويض اهمالهم للعراق طويلاً بالتواصل والتضامن وتبادل المصالح المشروعة والمشتركة، ويتحول العراق الى قناة عربية على ايران وتركيا بدلاً من أن يتحول الى مكان للقطيعة التي تضر بالجميع، وبذلك تصبح العروبة رافعة لإنجاز وتجديد وترسيخ الوطنية العراقية والمواطنة العراقية والدولة العراقية والمجتمع العراقي الذي ينعطف متوحداً وطنياً في مستوى عروبته واسلامه نحو أهل الأديان الأخرى والأقليات المذهبية والقومية الصغيرة، ليحول الكل العراقي الى كل نوعي مميز بنكهته الثقافية والحضارية التي تستعيد أجمل ما في الذاكرة العراقية من أجل عراق أجمل ومستقبل أغنى وعوداً وشعراً وفرحاً ووسطية تلائم نعت العراق بأنه بلد الرافدين أو بلاد ما بين النهرين، هذه البينية العراقية ثقافة وحضارة هي المناخ الذي يمكن من انجاز الدولة المعاصرة والأصلية المتحاورة باستمرار مع مجتمعها التعددي المحكوم بالوحدة تكويناً ووعياً. وأختتم بشهادة تابعت فصول موجباتها مباشرة مع الدكتور أياد علاوي وعدد من أعضاء القائمة العراقية موضع الثقة، لكفاءتهم السياسية والأخلاقية، خصوصاً عندما غادر الدكتور علاوي بغداد قبيل تأليف الحكومة وكان يمكن لسفره أن يُفهم على أنه مقاطعة نهائية ليتحول عائقاً، قد تكون آثاره غير محمودة بالنسبة الى الحكومة وعملها وعناصر حيويتها. وبالنسبة الى القائمة العراقية التي ستؤثر القطيعة على وضعها من الخارج والداخل، غير أن الدكتور علاوي كان يدرك أن المشاركة، حتى المنقوصة، من وجهة نظره ونظر عدد من المعنيين، ستؤدي الى اضعاف متبادل للدولة وللدكتور علاوي وفريقه النيابي، فسارع الى الظهور في قناة"العربية"معلناً بقاء الأبواب مفتوحة للمشاركة بشروط مرنة حرصاً على مقدار الضرورة الذي يشكله، وقد لاقى هذا التوجه تقديراً لدى الرئيس المكلف المالكي من ضمن توجه مشترك لتفعيل العملية السياسية من أجل عراق للجميع وبالجميع. * كاتب لبناني.