تستوقفنا في مجموعة المعلمين المعاصرين المعروفة باسم"فيليب"في متحف"لوكسمبورغ"أعمال مارك شاغال، كأصداء لمعرضه الاحتفائي في مدريد. شاغال دائم الحضور في شتى الزوايا والمناسبات تكاد لا تغيب صور لوحاته وكراسات طباعاته عن واجهة بارزة في المكتبة. ولأسباب قد تتجاوز أصالته. له ثلاثة وجوه متداخلة: روسية - فرنسية - يهودية. خلّدت ألوان شاغال ضيعة ولادته وطفولته الروسية"فيتبسك"، صورها بحنين وشوق فغمر فلاحيها وعربات حيواناتها وبيوتها الحميمة بطوباوية حلمية طبعت مناخات تكويناته الريفية الحبورة طوال حياته، فارتباطه عضوي برحم لياليها وأفراد عائلته ثم زوجته التي ماتت باكراً وظل مخلصاً لتعلقه بها، ثم تتحوّل هذه الأطياف الى عوالم توراتية روحانية حميمة، وتصبح الحيوانات أضاحي، بطريقة سردية شعبية تحمل روح شدة الترحال عن"المكان الأم". عالم رمزي مقلوب النسب والشخوص. تتباعد قياسات شخوصه فتصل في عملقتها الفلك والغيم والنجوم، وتتقزم بجانبها أخرى حتى قياس الهوام والحشرات. يُعتبر شاغال عموداً رئيسياً في"الفن الروسي"في جانبه الروحي وليس البلشفي. مثله مثل مالفيتش ولاريونوف. اجتمع الثلاثة باكراً تحت عنوان"البدائية الجديدة"مستعيدين مثل الموسيقيين الفولكلور الشعبي. لذلك وجدناه جزءاً من عروض الفن الروسي أخيراً - أبرز المعارض حوله أُقيم في"مركز الفن المعاصر"لبلدية باريس منذ سنوات قليلة تحت عنوان:"شاغال والسنوات الروسية 1907 - 1921" - يتجه مباشرة في أسلوبه الى التقاليد المحلية المتجسدة بالرسوم الشعبية والتصوير"الأيقوني"، تبع هذا المسار منذ خروجه من ضيعته الى بطرسبورغ ثم الى موسكة لينجز ديكورات"المسرح اليهودي"عام 1912. وكان منذ زيارته الدراسية لباريس قبل عام بدأ يتأثر بالتقنية"التكعيبية"لبيكاسو. وهنا نصل الى الوجه الثاني. يعتبر الفرنسيون شاغال الى جانب بيكاسو رمزاً لاستقطاب الحداثة التشكيلية لباريس ما بين الحربين؟ فما ان وصل شاغال باريس عام 1922 حتى صرّح بأنه بدأ يغسل عينيه، وأصبح جزءاً من مجتمع فناني"مدرسة باريس"مثل موديلياني، وصادق أبو لينير. يصور في هذه الفترة"برج ايفل"مرات بخاصة في لوحته الشهيرة التي صور فيها نفسه بپ7 أصابع وهو يرسم، ثم استقر نهائياً وأصبح فناناً فرنسياً ابتداء من عام 1947، واكتشف بالتدريج خصوبة شموس الساحل المتوسطي في جنوبفرنسا فترسّخ نشاطه ومتحفه فيها الى ان توفي في مرفأ"فانس"عام 1985. يوسم تصوير شاغال بأنه نموذج"للتصوير التوراتي"الذي يحمل روح ملحمة التشرد اليهودي ببعدها الميتافيزيقي الغجري وليس الحربي، البعد الروحاني والتعويذي المعروف"بالهسيدية"المتعارضة مع العقلانية اليهودية الأوروبية، لذلك اختص بطوباوية العالم الحميم الذي يسكن الغيوم، متحرراً من الجاذبية الأرضية، حيث يحمل الكمان، ينشر أحزانه واغتراباته أينما حل، فهو العابر والضيف المحكوم بقدر الترحال الأبدي. حمل مع حقائب سفره التخيلية الى باريس ونهر السين حيواناته التوراتية الشائعة. هي مثل شخوصه كائنات سديمية أثيرية عائمة في فلك رذاذي مقزّح، وكأنها مفتتة الى ذرات برادة الحديد التي تتجمع حول مغناطيس اللون. تجذبها بؤر الألوان المجراتية، وهنا نقع على أبرز خصائصه التخيلية اللونية. يعتمد على منهج تباعد البؤر اللونية المشعة بحيث يستغرق في كل منطقة بلون أحادي، يعالجه حتى الثمالة والشبق الصباغي. يُشير هو نفسه الى محاولته التناغم أسلوبياً مع تحريم"التشبيه"، فتبدو رؤوس أشخاصه مفتولة أو مقطوعة وكذلك الأجساد متخلعة في شروط"تنزيهية"روحانية تصعيدية أقرب الى الحلم، معالجاً الموضوعات الحميمة العائلية: الزواج والميلاد والموت، صمّم نوافذ"الزجاج المعشّق"في أكثر من كنيس، خصوصاً عند شراكته في تأسيس"متحف تل أبيب"وزيارته الأولى لفلسطين عام 1961 تبعها زيارته لسورية ولقاء مع الأيقونات المحلية التي كانت تأسره روحياً. تتجاوز خصائص شاغال الفنية الروحانية الرهيفة وشمولية ذائقته التخيلية حدود الخاتم التوراتي. ناهيك عن حفاظه على براءة التعبير الشعبي، وتجنّب الافتعال التقني. بعض الفنانين العرب الذين عمّروا حداثة لوحتهم على"التراث الأيقوني"قريب من شاغال. يكفي أن نراجع أعمال فنانين معروفين في سورية الياس زيات وأدوار شهدا أو في تونس أحمد الحجري وقويدر التريكي حتى ندرك عمق هذه العلاقة الذوقية الروحية.