انقطع في خاطرنا سحر الجاذبية وذبل مدى الكلام الذي كان، وفي كل قراءة، يترسب في الرؤيا وقد فاضت شطحاً بلا شطآن. خبت حماستنا وخابت أمام مواقف الكاتب الألماني بيتر هاندكه، الذي تعتبر نصوصه زاداً لرحيل متخيل الكثير من القراء. عندما رحل الطاغية سلوبودان ميلوشيفيتش، حظرت حفلة تشييعه لكن هاندكه لم يتردد في إلقاء خطبة تقريظ في حقه. وكانت الخطبة عثرة خطيرة ترتب عنها سجال حاد في الوسط الثقافي الفرنسي ما زال قائماً حتى الآن. الروائي والمسرحي النمسوي بيتر هاندكه هو بلا منازع أحد أهم الكتاب الذين أضفوا على اللغة الألمانية كثافة تراجيدية ورمزية نادرة تذكراننا بالمشغول الروائي أو الشعري لسوفوكل، هولدرلين، فولكنر، رنيه شار الذي ترجمه إلى الألمانية مع فرنسيس بونج ومالارميه... ومن تسنت له قراءة نصوصه في مختلف أجناسها، روائية، شعرية، مسرحية، نقدية مثل"المرأة الخرقاء"وپ"قلق حارس المرمى لحظة ضربة الجزاء"،"وزن العالم"،"مرحباً بكم في مجلس الإدارة"وسواها، يقف عند فعل تجاوز الأجناس والمحكيات إلى مساحات وفضاءات تخييلية تزج بالقارئ في وضع شبه صوفي تتماهى فيه الشخوص بحالاتها الشطحية القصوى مثل ما هو عليه الحال في سيناريو"أجنحة الرغبة"أحد الأفلام المهمة التي دمغت بقوة السينما الحديثة وقد أخرجه فيم فنديرز. فالكاتب هاندكه لا يكل من العودة إلى تيمة يأس الإنسان وعزلته أمام ذاته. ولد هاندكه عام 1942 في غريفين في النمسا من أب مجهول. تولّت والدته، وهي من أصل سلوفيني، تربيته. ومن وسطه المتواضع ، بل الفقير، احتفظ بنوع من الجاذبية الى مصائر حياة البؤساء والمنبوذين، وفي هذا الشأن يقول:"يجب أن يُضاف الشقاء الى الكتابة، لأن الرغبة وحدها غير كافية". قضى هاندكه قسطاً من شبابه في غريفين في برلين إلى عام 1948. وعندما وافقت دار النشر سوركامب على نشر روايته الأولى، تخلى عن دراسة القانون ليتفرغ للكتابة. منذ العام 1966 يعمل هاندكه كاتباً مستقلاً في ألمانياوالنمسا وفرنسا. استقر عام 1991 في مدينة شافي، بالقرب من باريس. ومثله مثل دريوه دو لا روشيل، روبير برازياك، بول كلوديل، مارتن هايدغر، لوي فيردينان سيلين وبالقرب من ميشال ويلبيك، لم يتردد، لأسباب تاريخية وشخصية، في معاكسة التيار والانجذاب إلى أطروحة التفرقة، بما تمثله من تمييز وفرز في سجل السلالات والانتماءات. ولم يتردد في هذا المضمار في إعادة كتابة الحرب في يوغوسلافيا سابقاً، مقدماً الصرب"ضحايا"، والمسلمين بخاصة"جلادين"!! ومنذ 15 سنة، ما فتئ يناصر الصرب وسياسة التطهير. وكانت مقالته"رحلة شتوية في اتجاه نهر الدانوب"، أعيد نشرها في كتيب بالفرنسية لدى غاليمار، مرافعة حماسية في حق النظام الصربي. وفي نظره ثمة رأي عام مزيف لم يعاين مأساة الصرب والسبب في ذلك كما يقول، الصحافيون،"كلاب الحراسة"الذين جاءت تحقيقاتهم مغرضة ومناهضة قبل أن يعاينوا ما يحدث في الساحة. وما أن علم مارسيل بوزوني، المشرف على مسرح"لا كوميدي فرانسيز"بمشاركة هاندكه في تشييع جنازة ميلوسيفيتش، حتى قرر إلغاء العرض المسرحي في عنوان"رحلة إلى البلد الصوتي أو فن السؤال"المقتبس من مسرحية كتبها هاندكه عام 1989، وأخرجها برينو بايين. كانت أسبوعية"لونوفيل أوبسرفاتور"أول من كشف عن حضور هاندكيه في بلدة بوزاريفاك في 18 آذار مارس، للمشاركة في الجنازة. وجاء في كلمته باللغة الصربية:"أنا سعيد بحضوري إلى جانب سلوبودان ميلوسيفيتش الذي دافع عن شعبه". كانت المسرحية مقررة في"ريبيرتوار لا كوميدي فرانسيز"في 27 و28 شباط فبراير 2007. وفي ندوة صحافية برر بوزوني قراره باستخفاف هاندكه حتى بالقرارات العالمية الصادرة عن محاكم العدل الدولية التي أثبتت الجرائم التي ارتكبها سلوبودان ميلوسيفيتش وهي غير قابلة للشك."كلنا عرضة للخطأ، لكن الذي حصل هو أن سلوبودان ميلوسيفيتش قدم الى محكمة دولية أثبتت جرائمه. أما هاندكه يواصل بوزوني كلامه - فيشك في تحقيقات الصحافيين وشهادات المؤرخين... لهذا السبب لن نستقبل هذا العمل المسرحي ولن نصافح صاحبه. ارتكبت خطأ عندما برمجت هذه المسرحية". وبعد قرار الإلغاء جاءت ردود الفعل متباينة بين مندد ومؤيد ولكل حجته. ضمن قائمة المساندين لهاندكه باسم حرية التعبير الكتّاب والفنانون: بيار ميشون، باتريك موديانو، ليك بوندي، أمير كوستوريسا، آن فيبير، كريستيان سالمون. أما الجهة المؤيدة للإلغاء فتشدد على فكرة أن هاندكه يتلذذ في وضع الضحية وأن مسرحياته لا تزال تعرض من دون أي مراقبة في الكثير من المسارح الفرنسية وأن الصحافة تنسج مدائح حول نتاجه. وفي هذا الصدد صدرت في عنوان"الحق في الرفض"، قائمة موقعة بأسماء مئة وخمسين كاتباً ومسرحياً وناقداً ومخرجاً... تساند قرار مارسيل بوزوني. ومن بين الأسماء: الكاتب جاو كزينغ يان الحائز جائزة نوبل للآداب، هيلين سيكسو، آريان منوشكين، بيرنار لاتارجي، بيار بيرجي، فيليب كوبير... والسجال مرشح لأن يشهد مزيداً من التفاعلات الساخنة. ولكن من المؤكد أن بيتر هاندكه خسر رمزيته كاتباً عالمياً وضميراً يقظاً لمآسي الآخرين.