في العام 1916 حين أعلن الموسيقي الروسي سيرج بروكوفييف 1891 - 1952 امام أصدقاء له انه ينوي تلحين نص أوبرالي مقتبس من رواية"المقامر"لمواطنه الكبير دوستويفسكي، سخر منه الأصدقاء متسائلين باستنكار كيف يمكن لنص شديد الجوّانية، يقوم على صراع فرد مع إدمانه القمار، ان يتحول الى استعراض غنائي؟ بيد ان بروكوفييف، الذي كان في الخامسة والعشرين من عمره في ذلك الحين ويستعد للقيام بتجديد موسيقي كبير وقد أدرك ان القرن العشرين في حاجة الى مثل هذا التجديد، لم يأبه باحتجاجات الرفاق، وأنجز عمله خلال شهور قصيرة، ليقدم... لكن الفنان عاد بعد ذلك بعشرة أعوام ليحدث تعديلات في العمل، ولكن على ضوء مستجدات التحليل النفسي الذي كان خلال ذلك، التقط رواية دوستويفسكي تلك واشتغل عليها تحليلاً. رواية"المقامر"هذه، التي أثارت اهتمام ذلك الموسيقي الشاب، وأساطين التحليل النفسي، تعتبر على اية حال، من اكثر روايات دوستويفسكي ذاتية، حتى وإن كنا نعرف ان الجزء الأكبر من كتابات صاحب"الجريمة والعقاب"كان مستقى من تجارب عاشها بنفسه، او من تجارب آخرين تناهت الى علمه. فالحال ان الطابع الذاتي في"المقامر"لا يخفى على احد. إذ ان قراء دوستويفسكي والمطلعين على سيرة حياته يعرفون ولعه بالقمار الذي جعله يخسر معظم ما كان يجنيه من مال. بل لم يكن واحد من دارسي حياة دوستويفسكي مخطئاً حين قال مرة ان تاريخ الأدب وتاريخ الإنسانية يدينان الى القمار نفسه بمعظم ما كتبه هذا الروائي الروسي الكبير. لماذا؟ لأنه اذ كان يخسر في القمار على الدوام، كان يضطر بعد كل خسارة كبيرة الى كتابة رواية ينشرها مسلسلة في المجلات كي يقبض ثمنها يعيش به لفترة او يأخذه معه الى طاولات القمار. وهكذا، كتب عدداً من أروع أعماله. غير ان ما يحلو لنا، نحن هنا، اعتباره فضلاً للقمار على ادب الرجل، إنما كان عبئاً عليه في حياته. وهو اذ كتب"المقامر"في العام 1866، فإنما كتبها لكي يعبر عن ذلك العبء، معرياً نفسه وإدمانه. لكن الرواية لا تتوقف في الواقع عند هذا البعد. فالأحداث فيها متشابكة ومترابطة، قماراً او خارج القمار، بحيث انها تشكل في مجموعها وفي نهاية الأمر صورة لحياة دوستويفسكي وهو في الخامسة والأربعين من عمره، ولأفكاره وإحباطاته، بل حتى لبعض العواطف التي عاشها والتي عبّر عنها - عرضاً - في ثنايا هذه الرواية. في شكل مباشر تروي"المقامر"حكاية تلك التجربة الشخصية التي عايشها دوستويفسكي خلال رحلة قام بها الى الخارج. وهي تجربة أفلسته وأعادته الى بلده روسيا خائب المسعى مثقلاً بالديون... ولكن بالإحباطات ايضاً. في الرواية أعطى الكاتب بطله اسم ألكسي ايفانوفيتش, وجعله الراوية الذي يحكي لنا تفاصيل التجربة وحكايتها بصيغة المتكلم، ما يجعلنا، نحن القراء، نسبر أغوار حكايته وعواطفه في شكل مباشر. فمن هو ألكسي هذا؟ انه في الرواية معلم يشتغل لدى جنرال اعتاد بين الحين والآخر ان يسافر استجماماً الى الخارج حيث يقيم لفترة في مدينة متخيلة تدعى روليننبورغ من"روليت"طاولة القمار الرئيسية كما نعرف". وخلال الرحلة يقع ألكسي في غرام سلفته. وهذه السلفة المدعوة بولين تعامل ألكسي بقدر كبير من غرابة الأطوار مبدية كل نزواتها تجاهه. وذات يوم يحدث لألكسي ان يشعر بالحاجة الى لعب القمار في الكازينو، فتعطيه بولين مبلغ 700 فلورين طالبة منه ان يلعب لها على طاولة الروليت. هنا، في البداية يلعب الحظ لصالح صاحبنا فيربح أول الأمر. لكنه ومثل كل مقامر مدمن، لا يكتفي بما حقق حتى تلك اللحظة من أرباح، بل يتطلع الى ان يلعب المزيد، لعل الحظ المواتي له يعطيه المزيد من الربح... فيلعب ويلعب حتى تكون النتيجة الحتمية: يخسر كل ما كان ربحه وما كان معه اصلاً. فيفقد رشده ويدخل في جو من الهذيان التام. في تلك الأثناء، يكون الجنرال محاطً بشخصين مقامرين هما ديجرييو وبلانش، الرجل والمرأة اللذين ينتظران بفارغ الصبر، الاحتيال على الجنرال لنيل نصيبهما من إرث من المفترض ان تتركه له عمة مريضة. لكن الذي يحدث في شكل مفاجئ هو ان العمة تصل الى المدينة من دون سابق إنذار... تصل لكي تلعب القمار بدورها. فهي الأخرى مصابة بإدمانه. وهكذا، على غير المتوقع، تخسر العمة خلال بضعة ايام الجزء الأكبر من ثروتها. وإذ يرى المقامران، بلانس وديجرييو هذا يهجران الجنرال تاركين اياه لمصيره. بيد ان هذا لا ينهي الحكاية، بل يكون بداية تعقيدها. إذ، في شكل مفاجئ، يعود ألكسي ايفانوفيتش الى طاولة القمار ليربح هذه المرة ثروة طائلة. ولكنه هذه المرة ايضاً - بسبب بولين التي يدفعها كبرياؤها الى إفساد كل شيء، كما بسبب بلانش التي تعود الى التدخل من جديد - يعود ألكسي ويخسر هذه الثروة الطائلة الجديدة. ويفلس من جديد ويتحول الى مقامر محترف لا يمكنه ان يبارح طاولة القمار ويسعى بكل طريقة ممكنة او غير ممكنة للحصول على مال يلعب به. وإذ يثير ألكسي شفقة معارفه، نراه هو لا يبالي بذلك. بل حين يدنو منه مقيم انكليزي هو آستلي محاولاً إنقاذه عبر إعطائه مبلغاً يمكنه من العودة الى وطنه، يرفض رفضاً تاماً. فهو لم يعد في وسعه ان يترك طاولة القمار ابداً. لعل أقوى ما في هذه الرواية، إضافة الى تمكين دوستويفسكي إيانا من التسلل الى داخل نفسية المقامر، وأحلامه وخيباته، وأفكاره التي تمزقه ليلاً نهاراً، بين التوقف عن جنونه هذا، أو المواصلة حتى الخراب التام وهو صراع لا يمكن ان يدركه إلا من مرّ حقاً في التجربة، أقوى ما في"المقامر"اذاً، هو ذلك الوصف المسهب والجنوني الذي يرسمه دوستويفسكي لصالة القمار والأشخاص المتحلقين حول الطاولات فيها. انه وصف واقعي، بل هيبر - واقعي، يتسلل الى عمق أعماق البشر وسطوح الطاولات والجدران والكرة التي تدور وتدور، والأرقام التي توصل اللاعبين الى التأرجح بين اقصى درجات الشاعرية، وأقصى درجات الجنون. اما الوقفات الأهم في الرواية فهي، بالطبع، لحظات التوتر الكبرى حين يبدو العالم، في نظر اللاعب، معلقاً بملميترات تدور فيها الكرة على سجيتها حتى تقف عند رقم قد يحمل السعادة للاعبه وقد يحمل التعاسة... ويقول لنا دوستويفسكي هنا بكل وضوح، وعلى رغم انه مقامر يكاد يكون محترفاً هو الآخر، ان حظ التعاسة اكبر من حظ السعادة بكثير. والحال ان ثمة من بين دارسي هذه الرواية من توقفوا مطولاً عند شخصية العمة وولعها بالقمار اكثر كثيراً مما توقفوا عند شخصية ألكسي نفسه. فالعمة، بسبب إدمانها اللعب في هذه الفترة المتأخرة من حياتها، تبدو - على رغم خسارتها - وكأن القمار كان إنقاذاً لها من شعور بالموت محتم. القمار أعطاها سبباً للعيش ما كان ليخطر في بالها أول الأمر... ولكنه واتاها انطلاقاً من هوايتها الجديدة، التي لم تفقدها، هي شيئاً، بل ادت الى حرمان وريثها من إرثها. إذاً، كما أشرنا، انطلق دوستويفسكي في كتابة"المقامر"من تجربة شديدة الشخصية، لكنه عرف في الوقت نفسه، كيف يفتح ادبه وسرده الروائي المدهش على العالم كله، على نزوات هذا العالم وجنونه، في شكل يجعل القارئ يحس ان لحظات التوتر في اللعب هي القاعدة في الحياة. اما ما عداها فهو الاستثناء. وما يقال عن"المقامر"1866 هنا يمكن ان يقال طبعاً عن عالم دوستويفسكي الروائي كله. هذا العالم الذاتي وإنما المطل على موضوعية الكون في شكل يجعل الذاتي والموضوعي لدى هذا الروائي الروسي الكبير، شيئاً واحداً في نهاية الأمر.