للوهلة الأولى قد تبدو رواية "المقامر" للكاتب الروسي دوستويفسكي، رواية وعظ وحض على الأخلاق القويمة طالما انها من ناحية موضوعها، ترينا المصير المظلم الذي ينتظر كل مقامر مدمن على اللعب فينسيه هذا الإدمان كل حذر ويورده موارد الهلاك. والرواية هي، كذلك حقاً، لمن شاء أن يجد فيها موعظة ودرساً. ولكن من المؤكد ان هذا لم يكن مراد صاحب "الأخوة كارامازوف" و"الأبله" حين أوشك بأوراقه وأقلامه ليكتب تلك الرواية التي تبدو غريبة بعض الشيء في سياق عمله ككل، قليلة الشخصيات، مركزة الأحداث، وذات سياق خطي لا يخرج عن طريق ما رسم له الكاتب. كان مراده، في الأحرى، أن يعبر، حقاً، عما كان يعتمل في أعماقه من أحاسيس ومشاعر، هو الذي عاش بنفسه التجربة ذاتها التي عاشها بطله، هذا البطل الذي يبدو في نهاية الأمر قريناً له، صورة طبق الأصل عنه، حتى وإن كان الكاتب قد نوّع في رسم الشخصية، وزاد من حول المقامر، شخصية الرواية المحورية، شخصيات أخرى جعل لها أهمية في سياق العمل. بل لنقل انه وضع تلك الشخصيات ليس لقصد منه في تطويل الأحداث، بل لكي يتمكن من أن يطل في شكل أفضل على الشخصية المحورية راسماً جوانيّتها في تحليل سيكولوجي مبتكر، كان جديداً على عالم الفن الروائي في ذلك الحين. ونعرف أن فرويد قرأ "المقامر" في شكل مستفيض وغرف، في ما غرف، من منهل تحليلات دوستويفسكي، ما ساعده على رسم نظرياته الهامة حول العلاقة بين الأدب والتحليل النفسي. ثم بين الفن عموماً وهذا التحليل. والحقيقة أنه إذا كان دوستويفسكي قد عرف باهتمامه الفائق بالتحليل النفسي للشخصيات التي يرسمها في العدد الأكبر من رواياته، ولا سيما روايات مرحلة النضج منها، فإن "المقامر" تقدم نموذجاً أكثر تطويراً، ذلك أن التحليل النفسي هنا لا يأتي عرضاً، بل في جوهر العمل، التحليل النفسي. بل، بالأحرى، تحليل الذات نفسياً. ذلك أننا نعرف أن "المقامر" كتبت، كما أشرنا، بدءاً من تلك التجربة الشخصية التي عاشها دوستويفسكي مع القمار. وهو، حين كتب الرواية، آل على نفسه ألا يكتب انطلاقاً من فعل الندم أو من الرغبة في البوح من أجل خاطر البوح نفسه كنوع من الترياق، بل ليخوض أكثر وأكثر مجاهل الروح وأدران النفس، باحثاً عبر أسلوبه البارد شكلاً، عما يحرك تلك الروح، ويجعل صاحبها يقدم على ما يقدم عليه. وفي هذا الاطار يمكن القول أن أي عمل على الإطلاق، في تاريخ الأدب، لم يتمكن من بلوغ ما بلغته رواية "المقامر" من قدرة على تحليل الدوافع وعلاقة الأفعال بتوجهات فاعليها. أو، إذا كانت هناك أعمال بلغت مستوى "المقامر" في مجال التحليل السيكولوجي فيقيناً هي أعمال تحمل أيضاً توقيع دوستويفسكي نفسه، نقول هذا وتخطر في بالنا بعض أعمال كبرى له مثل "الأخوة كارامازوف" و"الجريمة والعقاب". كتب دوستويفسكي "المقامر" في العام 1866، وكان في نحو الخامسة والأربعين من عمره. وهو كتبها، إذاً، انطلاقاً من تجربته الشخصية، غير انه لم يعش تلك التجربة داخل روسيا بل في الخارج، إذ تروي لنا سيرته انه فيما كان مقيماً في الخارج أولع بالقمار وراح يلعب ويخسر، ولقد تواصل لعبه وخسرانه زمناً، ما جعله مفلساً تماماً وغير قادر على الاستمرار في العيش خارجاً. وهكذا، عاد الى روسيا خالي الوفاض تماماً، إلا من مشروع كتابة رواية تحكي تجربته. ويقال عادة أن المشروع ولد لديه وهو في قطار العودة فأحس في ذلك تعويضاً على ما خسره، ومكنه من أن يضع بينه وبين ما حدث بالفعل، مسافة، كانت ضرورية له لكي يحسن التحليل بكل برود وهدوء. ولولا تلك المسافة التي مرّن نفسه عليها، لما كان في امكان "المقامر" ان تكون العمل الذي هي عليه الآن. بطل الرواية - وراويها في الوقت نفسه - يدعى ألكسي ايفانوفتش، وهو شاب يعمل لدى جنرال يصحبه الى أوروبا في كل مرة قام فيها برحلة الى بلد أوروبي. وذات مرة يكون ألكسي مع الجنرال في زيارة لمدينة - متخيلة - تدعى رولتبرغ - من "روليت"، بالطبع -. وهناك في تلك المدينة يحدث للشاب أن يقع في هيام زوجة أخيه المدعوة بولين. وهي امرأة ذات نزوات ولعوب ما ان تدرك هيامه بها، حتى تبدأ التلاعب به. وذات يوم تعطيه مبلغ 700 فلورين طالبة منه أن يلعب "الروليت" في الكازينو من أجلها. في البداية يربح ألكسي كثيراً من المال، غير انه سرعان ما يخيل اليه أنه يتعين عليه أن يواصل اللعب حتى يربح أكثر. وهنا يخسر كل ما كان ربحه. فيفقد السيطرة على حواسه وعلى عقله ويغوص في نوم من الهذيان المرضي. اضافة الى هذه الشخصيات ثمة في الرواية شخصيتان أخريان هما دغرييه وبلانش، رجل وامرأة مقامران يحيطان بالجنرال في انتظار ان يرث ثروة ستأتيه من خالة مريضة له تبدو على وشك الموت. لكن هذه الخالة سرعان ما تصل معافاة الى المكان ويحلو لها، بدورها، أن تجرب حظها في اللعب. وهكذا تبدأ، هي الأخرى بخسارة ثروتها بالتدريج، حتى تفلس تماماً، فلا يكون من المقامرين دغرييه وبلانش إلا أن يتخليا عن الجنرال تماماً. هنا عند هذا المستوى من الحكاية يعود ألكسي ايفانوفتش الى طاولة اللعب من جديد. لكنه هذه المرة لن يخسر، بل سوف يربح مبلغاً كبيراً... وهنا تعود بلانش وبولين الى الدخول في حياته من جديد. ومن جديد نراه يخسر كل ما كان ربحه، ليفلس ثانية، ويتحول من مقامر هاوي ومغامر، الى محترف لعب، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. ويبدأ هبوطه الفعلي الى الحجيم. وهنا يتدخل شخص انكليزي يشفق عليه ويحاول انقاذه مما هو فيه، جامعاً له من المال ما يمكنه من العودة الى وطنه، غير ان الكسيْ لم يعد يرغب في أي شيء آخر غير اللعب واللعب طوال الوقت، ويصبح همه الوحيد أن يدبر من المال ما يمكنه من المقامرة في شكل متواصل، طالما انه لم يعد قادراً على مقاومة سحر القمار. وهكذا هنا، من خلال هذه المغامرة البائسة واليائسة التي يعيشها ألكسي ايفانوفتش يروح دوستويفسكي واصفاً لنا صالة القمار وأحوال المقامرين وتصرفاتهم وعلاقتهم باللعب، بشكل أخاذ ومدهش، لا يمكن اتيانه إلا من قبل من عاش تلك الحال بالفعل. غير ان هذا ليس هو الأساس كما يجمع باحثون على دوستويفسكي، الأساس هنا ليس وصف الديكور وشخوص الحكاية، الأساس هو ذلك التغلغل الذي يمارسه في داخل الشخصيات، ولا سيما شخصية ألكسي، كما أشرنا في أول هذا الكلام، ولقد ساعد دوستويفسكي على هذا "كونه قد عرف كيف يلتقط شخصياته وأفكارها وأحلامها وخيباتها في اللحظات نفسها التي تكون فيها غارقة في أعلى درجات التوتر"، حسبما يروي واحد من الذين أسهبوا في تحليل هذا العمل، مركزاً على تفوق دوستويفسكي في وصف تلك "الخالة الغريبة التي إذ وجدت نفسها تعيش آخر أيامها، انصرفت الى ذلك الشغف باللعب، الذي خلقها من جديد واعطاها مبرراً للوجود...". لا تعتبر "المقامر" من أعمال فيودور دوستويفسكي 1821 - 1881 الأساسية، لكنها مع هذا تعتبر عملاً عميقاً وصادقاً، ما جعلها، تحتل، دائماً مكانة خاصة في سلسلة أعمال هذا المبدع الروسي الكبير، بين "المأخودون" و"الأبله" و"الليالي البيضاء" و"الجريمة والعقاب" وغيرها من أعمال أسست لنوع متميز من الرواية الحديثة.