كاد الجوّ الديبلوماسي والرسمي يطغى على"مهرجان الشعر العربي - الفرنسي"الذي نظمه في باريس مجلس السفراء العرب في فرنسا، متعاوناً مع وزارتي الثقافة والخارجية الفرنسيتين ومعهد العالم العربي. أمسيتان من الأمسيات الثلاث أحياهما الشعراء في وزارة الثقافة ووزارة الخارجية وكانت الدعوات اليهما محدودة ومقتصرة عموماً على شخصيات ديبلوماسية وسياسية اضافة الى شعراء المهرجان. أما الأمسية التي شهدها"معهد العالم العربي"فكانت مفتوحة أمام الجمهور وبلا دعوات. وهي الوحيدة التي امتلأت فيها الصالة وحضرها هواة حقيقيون للشعر، عرباً وفرنسيين. لم يكن المهرجان صاخباً على غرار المهرجانات الشعرية العربية، مع أن الشعراء المدعوين تخطوا الثلاثين شاعراً. الأمسية الأولى كانت شبه رسمية وتوزع الحاضرون على الطاولات، لكنّ العشاء بدأ بعد انتهاء القراءات التي لم يعكّرها رنين القناني الحمر. ألا أن الطابع السياسي لم يغب لحظة، لا عن صالة الاستقبال ولا عن الأمسية وحفلة العشاء. وقضية"كلير ستريم"التي تخض الدولة الفرنسية لم يغب طيفها عن الحوارات الجانبية وعن كلمة وزير الثقافة الفرنسي. مهرجان هادئ إذاً. الشعراء قرأوا بأصوات خفيضة وحميمة في أحيان. ولم يتماد أحد على المنبر شبه الغائب أصلاً، ولم يطل أحد في قراءته، ما خلا الشاعرة التونسية أمينة السعيد التي قرأت قصيدة طويلة بالفرنسية لم تخل من الرتابة. حتى الشاعر محمود درويش قرأ قصائد ثلاثاً شاركه في قراءتها بالفرنسية الكاتب والمترجم الياس صنبر. الجمهور لم يكن متطلباً لا سيما في وزارة الخارجية حيث قرأ أحد عشر شاعراً قصائد قصيرة باللغتين. وعموماً خُصّ كل شاعر في المهرجان بما يقارب الدقائق الست، وكان على الشعراء العرب أن يختصروا، وقد قرأت بعض قصائدهم المترجمة الى الفرنسية الشاعرة اللبنانية - الفرنسية فينوس خوري غاتا التي يمكن تسميتها"عرابة المهرجان". حضر شعراء مهمون في المهرجان وغاب عنه شعراء مهمون أيضاً. أصلاً هذه طبيعة المهرجانات. لكن الشعراء العرب الذين حضروا، يمثلون أجيالاً شعرية متعددة وتجارب شعرية متعددة. والصورة التي تشكلت في مخيلة الجمهور عن الشعر العربي هي صورة حقيقية وإن كانت مجتزأة. فالمهرجان الواحد لا يستطيع أن يضم المشهد الشعري الكامل. وكان حضور محمود درويش قادراً على منح المهرجان شرعيته، وهو عادة لا يشارك في أمسيات جماعية نظراً الى علاقته بجمهور يمكن وصفه بپ"جمهور"محمود درويش. الشاعر شوقي أبي شقرا أحد رواد مجلة"شعر"حضر بخفر ولطافة، وشعره الخاص جداً والمشبع بالطرافة لا علاقة له بالجمهور في مفهومه المعمم. والحال هذا هو حال بول شاوول أو أمجد ناصر وبسام حجار وعيسى مخلوف وكاتب هذه السطور. عيسى مخلوف استهل قراءته بجملة أعلن فيها عدم قدرة الشعر على اجتراح المعجزة قائلاً:"في كل مرة تكتب القصيدة عجزها عن كتابة العالم". بول شاوول قرأ قصيدة من ديوانه"كشهر طويل من العشق"وكانت القصيدة صعبة تبعاً لتفجراتها الداخلية واللغوية ولحمأتها الأروسية. أمجد ناصر وبسام حجار كانا بحق صوتين جديدين بما يحمل شعرهما من مواجهة للذات والعالم. إلا أن شعراء آخرين كانوا أشد انفتاحاً على الجمهور، ولم تخلُ قصائدهم من الرغبة في المحاورة وإن من جهة واحدة. عبدالمنعم رمضان، حلمي سالم، قاسم حداد، بهاء جاهين... أصوات شعرية مختلفة، يحمل كل منها همّه ورؤيته المرتبطة بما يُسمى"واقعاً"أو"تاريخاً"عاماً أو شخصياً. الشاعرة جمانة حداد قرأت مقاطع من قصيدتها"ليليت"ولكن في الترجمة الفرنسية وكان لها صدى لدى الشعراء الفرنسيين والفرنكوفونيين من جراء اقتحامها الأروسي للغة الشعرية. هدى أبلان جاءت من اليمن حاملة نفحات أنثوية. أما الشعراء العرب الفرنكوفونيون فكانوا على اختلاف شديد بين"ذهنية"صلاح ستيتية وغنائية فينوس خوري غاتا ورمزية مالك علولة، ونثرية الطاهر بن جلون، وپ"غموض"عبدالوهاب المؤدب... والأصوات الفرنكوفونية الأخرى لم تترك الأثر المفترض في ذاكرة الحاضرين ولا في وجدانهم. طبعاً يصعب إطلاق الأحكام سلباً وإيجاباً على قراءات قليلة غير قادرة على ترسيخ صورة الشاعر أو تجربته. وهذا ما حصل مع الشعراء الفرنسيين وهم من البارزين راهناً في الساحة الفرنسية، إن لم يكن شعرياً فإنما على مستوى العمل أو النشاط الشعري. موقع أندريه فليتر كمسؤول عن سلسلة"غاليمار"الشعرية وعن مجلة"كارافان"أهم من صفته شاعراً. أهميو جان أوريزه تكمن في كونه رئيس تحرير مجلة"شعر"الشعبية أكثر مما في نتاجه. وكذلك شارل دوبزنسكي رئيس تحرير مجلة"أوروبا"ومساعده الشاعر جان باتيست بارا. ولا يمكن تجاهل الشاعر جان بيار سيميون مدير مهرجان"ربيع الشعراء"في فرنسا. لكن هذه المقاربة لا تعني ان ليس لدى هؤلاء محاولات حقيقية وجديدة. وهم من الأصوات التي تكاد تهيمن إعلامياً على المشهد الشعري الراهن في فرنسا. الشعراء الفرنسيون الآخرون مثل ليونيل راي وغي غوفيت وبيار أوستر وزينو بيانو هم أصحاب تجارب خاصة يمكن الوقوف ازاءها. ترى هل حقق المهرجان غايته كفسحة للقاء بين لغتين وضفتين كما عبّرت الشاعرة فينوس خوري غاتا؟ قد يمكن القول ان المهرجان حقق هذه الغاية ولو ظاهراً. فما كان ينقصه هو التعارف الفعلي بين الشعراء الفرنسيين والعرب وتبادل الآراء والأفكار والتحاور في شؤون الشعر والحداثة وما بعد الحداثة... وكان يجب أن يترجم الشعراء الفرنسيون الى العربية وتُقرأ قصائدهم بالعربية مثلما حصل للشعراء العرب. فالترجمة المتبادلة قد تكون حيزاً حقيقياً للقاء والحوار. يصعب الحكم على مهرجان الشعر العربي - الفرنسي من خلال دورته الأولى، في ما تشهد الدورة الأولى عادة من ارتباك أو اضطراب. وقد أعلنت أسماء في البرنامج ولم تحضر مثل الشاعر العراقي سعدي يوسف، وحملت اللائحة الأولى اسمي أدونيس وسيف الرحبي مثلاً ولم يحضرا. ثم قيل إن أدونيس سيحضر ضيفاً من غير أن يقرأ، لكنه لم يحضر. وكان غيابه أو تغيّبه مادة للتندّر. وقال أحد الشعراء: عندما يحضر محمود درويش يغيب أدونيس. وفي المبنى العريق لوزارة الخارجية تذكّر بعض الحاضرين الشاعر الفرنسي سان جون بيرس الذي عمل في هذا المبنى سنوات غير قليلة. وطيفه قد يكون تنقّل بين الشعراء وقصائدهم.