اجتاحت الأسواق المالية العربية باستثناء عمان، لبنان، تونس، المغرب رياح عاتية، كان وقعها أليماً على مستثمري الأسهم، الألم والحزن كانا اشد وطأة على صغار المستثمرين، وأهون على"صناع السوق"الأثرياء والمحترفين، وصفوة من المضاربين المحركين لقطار السوق الذي اكتظ بالركاب، بجميع الدرجات التي عرضها شباك بيع التذاكر لدخول"معركة السوق"، تحت مظلة أحلام الثراء السريع. لماذا؟ لأن هذه السوق يدخلها من أوسع أبوابها حتى من يملك دولاراً واحداً، كما يدخلها من تبلغ ثروته بليوناً من الدولارات، إنها سوق تجمع الفقراء ومحدودي الدخل والأغنياء! بائعين ومشترين، وهذا يفرقها عن الاستثمار العقاري مثلاً، فالدولار لا يشتري متراً مربعاً واحداً! لذا رأينا ان قطار البورصات الخليجية مع الصعود المستمر للأسعار على مدى السنوات الثلاث الماضية، جذب"قطارها"شريحة كبيرة من المواطنين، خصوصاً في السعودية، بمختلف ميولهم التجارية وثقافتهم في مجال الاستثمار وغيره، حتى ان الكثيرين هجروا أعمالهم التجارية ومصادر رزقهم، واتجهوا الى"حراج"الأسهم لسهولة البيع والشراء، مندفعين وراء سراب الغنى! بل ان دم بعض أموالهم ضخ في عروق بورصات دول المجلس الأخرى، ومع تواضع خبراتهم في أدوات التعامل في السوق، لم يتقنوا فن التعامل بالأسهم، فخسروا ما استثمروا فيها، وفقدوا أعمالهم التي كانت مصدر رزقهم، لأنهم باعوها من اجل سواد عيون الأسهم. الأثرياء الخبراء في صناعة الاستثمار في الأوراق المالية، يضعون أهدافهم من الاستثمار المحافظة على رؤوس الأموال، تحقيق اكبر نسبة ممكنة من الأرباح، توافر السيولة الممكنة متى شاؤوا، وفعلاً سيطروا على السوق بيعاً وشراء، مضاربين كانوا ام مستثمرين، ضمن الأهداف الثلاثة أعلاه. هؤلاء حفظوا مقاعدهم في الدرجة الأولى في القطار، على رغم الخسائر التي لحقت بكبار المستثمرين والمضاربين وصغارهم، فالأثرياء كونوا أرباحاً طائلة، والتصحيح او الانهيار أثر في"الشحوم"التي تجمعت خلال فترات الطفرة، أما"اللحوم"ونسبة كبيرة من"الدهون"فإنها باقية لتعاود البناء، بعد ان وصلت أسعار الأسهم خصوصاً في السعودية الى القاع، مستغلين خبراتهم في الاستثمار. صحيح ان ما حدث من"تسونامي"السوق لم يقتصر على أصحاب الثروات، والمضاربين ورجال الأعمال والتجار وصغار المستثمرين... لكن"الهلع"وخيبة الأمل اللذين خلفهما، كان أثرهما فادحاً في صغار المستثمرين، الذين لحقوا بالقطار متأخرين، واكتظت بهم الدرجات السياحية! وعندما وقعت الكارثة كان وقعها أشد وأقسى على هؤلاء العامة، الذين غلف الهم والغم قلوبهم، ومعظمهم كان يعتقد انه يملك الوعي والخبرة، ويفهم أهداف الاستثمار في الأسهم، وعنده القدرة على التنويع واتخاذ قرارات البيع والشراء الصائبة... الخ، فمعظم من انضموا الى القافلة لاحقاً ضخوا كل ما يملكون، بل واقترضوا من أجل هذا الهدف، وبعضهم باع المسكن أو السيارات أو مجوهرات الأسرة، أو حتى البهائم! ما حدث دروس وعبر لكل من انضم الى هذا"النادي"، بما في ذلك أسواق الأوراق المالية والمصارف، وحتى البنوك المركزية، فالبورصات العربية، والخليجية بوجه خاص، ما زالت تحبو ولم تتعلم المشي بعد، وهذه سمة أسواق دول العالم الثالث، فأنظمتها وقوانينها ولوائحها مازالت قاصرة، والمصارف التي تدير عمليات البيع والشراء وصناديق الاستثمار، كما في السعودية، أسهمت في الإرباك، والبنوك المركزية كانت تراقب الموقف مراقبة المتفرج! وحتى عندما تدخلت على استحياء كانت تدخلاتها متواضعة جداً. وما زاد الطين بلة، الإعلام الذي قدم تحليلات متواضعة كان الغث فيها أكثر من السمين، ومثلت تضليلاً بابتعادها عن الفنيات المعروفة في تحليل الأسهم! بل ان ما أطلق عليه مؤشرات التحليل الفني التي استخدمها البعض، كان لها أثرها السلبي، إذ بثت الخوف بدل الثقة، فكل من هب ودب أدلى بدلوه، حتى تاهت الطرق بصغار المستثمرين امام تلك التحليلات التي تقدمها الشاشات الفضائية، والتي تعطي مبررات مبالغاً فيها، تؤدي لارتفاع أسعار الأسهم، وبذلك تشعل نار المضاربات بدعمها أخباراً وإشاعات وتوصيات لا سند لها، ما يؤثر في عمليات العرض والطلب، وهذا جعل الكثيرين من صغار المستثمرين يهرولون خلف"القطيع". مع هذا التدني في المستوى"الفني"، وغياب التحليل المعتمد على مكانة الشركات ومجالس إداراتها، والمؤشرات المالية والربحية التي تحدد قرار البيع او الشراء، كان لتسريب المعلومات من بعض من اؤتمنوا على"حفظ الأمانة"، التي انتخبوا او تم تعيينهم من اجل حفظها، أثره البالغ في السوق، وكان ذلك سبباً جوهرياً في زيادة أرباح الأغنياء على حساب"الغلابة"صغار المستثمرين، الذين لا حيلة لهم ولا قوة تمكنهم من اختراق عالم"المعلومة"، فتكسرت أحلامهم على صخرة الأسهم، وضاعت مدخراتهم، وكان نصيب بعضهم الإفلاس، ?بعد ان تمكن حب المال من قلوب الجميع، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". وهنا يبرز دور هيئات أسواق الأوراق المالية، ومجالس إدارات الشركات، والمديرين التنفيذيين، لأن المعلومات تمثل العمود الفقري في سوق الأسهم، وهي مربط الفرس للعرض والطلب، وهي التي تقذف بأصحاب الثروات الى أعلى، وتدمر صغار المستثمرين ليخرجوا من القطار تحف بهم الحسرة ويلفهم الحزن والفقر والقهر، وهذا ما حدث لمن اقتحم السوق في عنفوان طفرة أسعارها! فكان حجم المخاطرة لآخر من التحق بالركب فادحاً، خصوصاً من وقع ضحية الاقتراض من البنوك، ووقع عقود"إذعان"لاقتحام عالم الاستثمار في الأسهم، فحرقت بعض البنوك الأموال التي اقترضوها، بتسييل المحافظ غطاء للقروض، ولذا فإن من ضمن ما أعلنته هيئة سوق المال مراجعة السياسات المتعلقة بقروض الاستثمار في سوق الأسهم، بالتنسيق مع مؤسسة النقد والبنوك. صحيح ان الاستثمار في الأسهم تتوافر فيه المرونة، وفي ميدانه اتساع لكل مستثمر، ومن أفضل الاستثمارات التي يمكن ان تعود على المستثمر والاقتصاد بفوائد ملموسة، اذا وفق المستثمر في اتخاذ القرار الاستثماري الصائب، ومع ذلك، فليست هناك أسهم تتسم دوماً بالثبات، لأن قيمة السهم تتغير بالنقص او الزيادة عن قيمته الاسمية، نتيجة عوامل قوى العرض والطلب. وقرار الشراء يعتمد على مدى حاجة المستثمر لنمو رأس المال، آخذاً في الاعتبار درجة المخاطرة التي يستطيع تحملها، والوقت الذي يمكن انتظاره حتى يجني عائد الاستثمار، والشركات التي يختارها للاستثمار. ومن يرغب في الانضمام الى قافلة المستثمرين في الأسهم، من المفيد له اختيار أسهم شركات قيادية لها اسم جيد، وذات حجم كبير، ونموها مستقر ومطّرد، وتمتلك مقداراً كبيراً من الأصول والموجودات، وسجلها في تحقيق أرباح الأسهم وتوزيعها حافل بالنجاح. ومع هذا، فلا بد من الأخذ في الاعتبار الحاجة والمخاطرة، وكلما زادت المخاطر زادت الأرباح المحتمل تحقيقها، وقد تتضاعف الأموال او قد يتعرض المستثمر لخسارة بعض مدخراته التي وظفها في الأسهم او معظمها، كما حدث عندما زادت سرعة قطار الأسهم في السوق السعودية ارتفاع الأسعار وحدثت الكارثة، لأن الغالبية العظمى ممن انضموا الى هذا النادي الكبير الأسهم، جنبوا النصيحة والمشورة المؤهلة، على رغم أهميتها في مجال الاستثمار، واعتمدوا على الإشاعات والتحليلات الخاطئة في معظم الأحيان. هذه النصائح قد تفيد اذا تمت دراستها بصورة سليمة، وقد يسأل سائل:"اذا كان هناك من يقدم المعلومات المهمة عن السوق وتحركات الأسهم، فلماذا لا يستفيدون من السوق بأنفسهم بدلاً من نقل هذه المعلومات لأي شخص آخر، للاستفادة منها في تنمية رأسماله؟"، والإجابة:"انه لا يوجد فعلاً من يعرف أسرار السوق دقة وتوقيتاً، فمن يقدمون النصيحة والمشورة يعطون المؤشر عن ماذا تشتري او تبيع، ولكنهم لن يخبروك متى تبيع في غالب الأحوال، خصوصاً ان عملية التقويم والاختيار للأسهم التي يكون الاستثمار فيها أوفر ربحاً وأكثر أمناً، تعتبر أمراً بالغ الأهمية، ووسائل التنبؤ بشأن التقويم والاختيار التي كانت تصلح بالأمس قد لا تنجح اليوم، ومن ثم فليست هناك معايير ثابتة ودقيقة يمكن الاستناد اليها في تقويم الأسهم، ولكن الاختيار يجب ان يتوجه أساساً الى الأسهم في الشركات التي تتمتع بسمعة طيبة في الأوساط المالية، ويظهر من تحليل قيمتها ان مركزها المالي، الذي يظهر من خلال موازنتها وحساب الربح والخسارة وحجمهما، ومعرفة طبيعة الشركة ومركزها في السوق... والوقوف على أغراض الشركة ونوع الخدمات او الانتاج الذي تقوم به... ومدى قوة الطلب عليها في السوق المحلية او الخارجية، ومدى تأثرها بالتقلبات الاقتصادية نزولاً وارتفاعاً، وانعكاسها على بعض عناصر الانتاج التي تستخدمها بعض الشركات، ما يجعلها عرضة للتقلبات التي تحصل في الأسعار الدولية لتلك العناصر، ام ان تلك الشركة تتميز باستقرار ملحوظ، كل هذا يؤكد شراء أسهمها لأنها حققت أرباحاً بانتظام على مدى السنوات الماضية، وان الربح الذي حققه السهم ازداد بنسبة ملموسة خلال السنوات السابقة، مع التنويع في شراء الأسهم،"حتى لا تضع البيض كله في سلة واحدة". كانت النتيجة ان القطار تزاحم عليه الركاب الباحثون عن الربح السريع، فزادت الحمولة بعد ان ضمت السوق ملايين المستثمرين، وزادت القيمة السوقية للشركات المساهمة السعودية المسجلة في السوق السعودية، اكبر واهم أسواق الأوراق المالية العربية، لتبلغ نحو 2.4 تريليون ريال، نتيجة لاتساع السوق والارتفاع الصاروخي للأسعار، بعد ان كسر المؤشر حاجز ال 20 ألف نقطة. هنا حدثت الكارثة كما نسميها، او الانهيار كما يسميها آخرون، او التصحيح كما يسميها فريق ثالث! لماذا قذفت كارثة"المضاربات العنيفة"بالمؤشر الى أعلى بهذه السرعة غير المسبوقة وغير المتوقعة، فزادت سرعة القطار الذي"اكتظ بالركاب"، وزاد"الوزن"عن المسموح به، فحدث"التصادم"ليتناثر بعضهم مذعورين مغادرين السوق، خصوصاً صغار ومتوسطي الاستثمارات، وبعض المضاربين، ليبقى"الهوامير". هذا التصادم أحدث"هلعاً"مدوياً خلال أيام، وكان من دون سابق"إنذار"، واندفع الذين كانوا يبحثون عن الأرباح المتصاعدة يبحثون عن أطواق نجاة يتعلقون بها، ليبتعدوا بها عن الخسائر، لأن الانحدار المخيف خفض القيمة الحقيقية من 2.4 تريليون ريال الى اقل من تريليون ريال، صحيح ان الأسواق المالية العالمية تعرضت لهزات عنيفة، منها ما حدث عام 1987 يوم"الاثنين الأسود"، ثم عام 1990 عندما احتل صدام حسين الكويت، وتزامن معه انهيار بورصة اليابان الشهير من 38 ألف الى 17 ألف نقطة، لكن تلك الأسواق، خصوصاً في أوروبا وأميركا، استعادت عافيتها، فمؤشر داوجونز تجاوز 11 الف نقطة... لماذا؟ لأن السوق تملك مقومات النجاح، ولذلك تجاوزت حتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2002 وقبلها الانهيارات المتتالية. اما أسواق الأوراق المالية العربية، على رغم تعدد البورصات، فهي أسواق ناشئة تنقصها معظم المقومات المتطلبة في البورصات العالمية، من قوانين وأنظمة ولوائح وعنصر بشري، فهي تحتاج الى دراسة موضوعية متعمقة، لمعرفة الأسباب التي أدت إلى ما حدث، وجعلتها مسرحاً للإشاعات والمعلومات الخاطئة، التي أدت الى المبالغة في أسعار الأسهم، فحصدت ضحايا معظمهم من صغار المستثمرين، بل ان المضاربين نالهم نصيبهم من الضرر، وهم احد الأسباب الرئيسة في رفع أسعار بعض الشركات الخاسرة التي أحدثت اختراقاً للسوق. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: كيف لهذه الأسواق ان تسترد عافيتها؟ لا شك في ان الأسعار كانت مبالغاً فيها، وصعدت معظم المؤشرات في دول الخليج في شكل سريع، لم يكن بمقدور"قطار"الأسهم تجنبه، ولم يكن باستطاعته تحمله، فكان الوضع تائهاً في أسواق كانت تنقصها إجراءات النضج والشفافية، بل والصدقية، أسواق عاشت وضعاً بين الحقيقة والخيال... فالحقيقة انه كان بالإمكان قطع المسافة خلال عام او عامين، مثلاً عام 2007، او 2008، ليبلغ مستواه فوق ال20 الف نقطة، لكن يبدو ان الجميع - ركاباً وكباتنة -"قرروا"قطع المسافة بسرعة"الصاروخ"، فتحول الأمر الى خيال"الغنى"في سرعة"البرق"، فأبى قطارهم ان يتوقف بهم في إحدى محطات الأمان! واليوم الكل ينظر الى"المؤشرات"التي تترنح أحياناً وتشد أنفاسها أحياناً أخرى، لكن الأمر يحتاج الى فترة"نقاهة"ليلتقط القطار أنفاسه، ليعود تدريجاً وبسرعة معقولة في السوق السعودية"اكبر الخاسرين"مع أواخر هذا العام، ليشهد أياماً خضراً تعود به الى سابق عهده، خصوصاً في أحضان اكبر الاقتصادات العربية، حيث يصل إجمالي الناتج المحلي إلى نحو 1.3 تريليون ريال، ويبلغ النمو الاقتصادي نحو 6.5 في المئة، في ظل طفرة اقتصادية غير مسبوقة، تحت عباءة ارتفاع تاريخي لأسعار النفط، كسر حاجز ال 75 دولاراً للبرميل. ومع هذا، قد تزيد السرعة بعدها لتشق طريقها الى الصعود، بعد ان ينقص القطار والمستثمرون الحمولات الزائدة من الشركات الخاسرة، التي كانت محلاً لمضاربات في"حراج"لا يعرف فيه"زيد"من"عبيد"، في سوق قصدتها شريحة كبيرة من المجتمع لتحسين أوضاعهم المالية عن طريق الربح السريع، فنالت خسائر فادحة، وهذه سوق الأسهم لابد فيها من خاسر كما ان هناك من يحصد أرباحاً. ولا شك في ان إعلان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن إنشاء مركز متطور، يحمل اسم"مركز الملك عبدالله المالي"، سيكون دفعة قوية لسوق الأسهم السعودية، لتبدأ مرحلة جديدة مهمة من التطور والتنظيم، فالمركز سيكون المقر الرئيسي لهيئة سوق المال، وشركة السوق المالية السعودية SAFX التي أعلن عن تدشينها، وتأسيس موقع تعليمي، إضافة إلى شركات الوساطة وإدارة الأصول ومؤسسات التقويم... الخ. وعلى الجانب الآخر، فإن في التأني وعدم التسرع في بيع الأسهم نسبة كبيرة من"السلامة"، وفي ولوج صناديق الاستثمار لمتواضعي الخبرة تقليلاً للمخاطر، في وقت أصبح مناسباً لدخول السوق"شراء"، وفرصة سانحة لعودة رؤوس الأموال التي هاجرت للاستثمار، وفي كل الأحوال، فمن يبحث عن الربح عليه ان يتوقع المخاطر، وتحمل النتائج وهي الربح أو الخسارة أو هما معاً... وعليه أيضاً أن يدرك أن جبال الجليد تذوب، ويبقى من الجبل الصخور، لكن كرة الثلج تذوب بلا رجعة إذا سطعت عليها أشعة الشمس القوية. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة.