لم يسبق على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية أن تعرضت أسواق المال والنقد العالمية لضغوط وتطورات متلاحقة وسريعة كما هو الوضع في الوقت الحاضر. فأسعار النفط تواصل الارتفاع على رغم كل الإجراءات المتخذة داخل منظمة"أوبك"وخارجها، بحيث بات الأمر وكأنه خرج على المعادلات الاقتصادية المتعارف عليها. ومنذ اكتشاف الذهب الأسود في القرن التاسع عشر، يحاول الذهب الأصفر اللحاق به في كل مرة تتجاوز أسعار الأول الأرقام القياسية. فالذهب الأصفر يقاوم محاولات تنحيته عن مكانته التي احتلها منذ عرفه الإنسان قبل قرون. وفي الأسابيع القليلة الماضية تجاوز سعر الأونصة 625 دولاراً للمرة الأولى منذ عام 1980 إذ وصل إلى 704 دولاراً. وإلى أسعار النفط والذهب، تُضاف مستويات التضخم والتذبذبات الحادة في أسواق المال والبورصات العالمية، لاسيما البورصات العربية عموماً والخليجية خصوصاً، ما أوجد حالة من الهلع والإضطراب لدى فئة كبيرة من المستثمرين. ويصح هذا الأمر تحديداً مع وجود تداخل غير منطقي بين العوامل الإيجابية والسلبية. فبعض التطورات الإيجابية يقابلها رد فعل سلبي، على عكس توقعات المستثمرين والمتعاملين في الأسواق المالية. والعكس صحيح. هذه الأوضاع والتطورات المستمرة أوجدت حيرة مستعصية لدى غالبية المستثمرين، لاسيما في المنطقة العربية. وهنا نتساءل: هل يوجد ما يدعو فعلاً لمثل هذه الحيرة؟ ربما يبلغ التساؤل ذروته في أسواق النفط، حيث التوازن بين العرض والطلب لا يبرر الارتفاع المتواصل. أما أسعار الذهب، فإنها ككيس الشاي الذي لا يعمل إلا في الماء الحار. وبما أن مناطق عدة من العالم تشتعل مع اندلاع بؤر التوتر والصراع جراء سياسة المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة، فان الذهب يعتبر الملاذ الآمن للمستثمرين في شكل عام. وفي مطلق الأحوال، تقوم أسعار النفط والذهب المرتفعة في الوقت الحاضر على توقعات ومخاوف اكثر من كونها انعكاساً لظروف موضوعية ترتبط بقانون العرض والطلب في الأسواق العالمية. ويقف التوتر بين الولاياتالمتحدةوإيران على رأس تلك التوقعات والمخاوف، وبحكم موقع إيران النفطي والجغرافي - السياسي، فان الانعكاسات كانت كبيرة ومؤثرة. وإذا تناولنا الجانب النفطي، تسبب إنتاج النفط الإيراني، الذي يقارب أربعة ملايين برميل يومياً، إضافة إلى مرور ثلاثة أضعاف هذه الكمية يومياً عبر مضيق هرمز، بمخاوف كبيرة من إمكان نقص الإمدادات إذا تدهورت الأوضاع في المنطقة. في المقابل تمخض عن الارتفاع الكبير في أسعار النفط في السنتين الماضيتين فوائض ببلايين الدولارات أدت إلى تضخم أسواق المال الخليجية والعربية، إلا أن بعضها وجد طريقه في الآونة الأخيرة إلى الذهب الأصفر، تحت تأثير توتر الأوضاع واحتدامها بعد إعلان إيران عن نجاحها السريع في تخصيب اليورانيوم وتعمق أزمتها مع المجتمع الدولي عموماً والولاياتالمتحدة خصوصاً. ويبدو أن هناك إقبالاً كبيراً على شراء الذهب من قبل البنوك المركزية بسبب الانخفاض المتواصل في قيمة العملة الأميركية ومن قبل المستثمرين، بما في ذلك المستثمرون الإيرانيون الهلعون من إمكان تدهور علاقات بلدهم بالولاياتالمتحدة. بناء على هذا التحليل المختصر ومع الأخذ في الإعتبار عمليات المضاربة وجني الأرباح، يمكن القول إن أسعار النفط والذهب مرشحة لمزيد من الارتفاع والتقلبات الحادة نزولاً وصعوداً بالتزامن مع التوترات والنزاعات الإقليمية والعالمية، كما أن العملة الأميركية مرشحة للسير عكس هذا الاتجاه، أي إلى مزيد من الانخفاض، متأثرة إلى جانب الأوضاع السياسية والأمنية، بالارتفاع الحاد في مستويات العجز في الولاياتالمتحدة. وواضح أن حال التوتر وعدم اليقين ستستمر في المستقبل القريب وستجد لها انعكاسات خطيرة على اقتصادات بلدان عدة وعلى توجهات المستثمرين في أنحاء العالم كافة. وما على المستثمر الحاذق والواعي إلا الاستفادة من الحكمة القديمة القائلة بعدم وضع البيض في سلة واحدة، فتنوع مكونات المحافظ الاستثمارية والابتعاد عن عمليات المضاربة وإن في مجالات الاستثمار الجيدة، ووضع استراتيجيات استثمارية بعيدة المدى، وعدم الخوف من التطورات الآنية التي أشرنا إليها، ضمانة أكيدة للحصول على عوائد مجزية في المستقبل، لاسيما أن أسواق المال والاقتصادات الخليجية في شكل عام تعتبر من الاقتصادات الناشئة التي تملك مقومات تنموية كبيرة، مدفوعة بالثروة النفطية وعوائدها الضخمة، وبنمو كبير في القطاعات الاقتصادية غير النفطية، وبسياسات الانفتاح المتزنة والمرنة المتبعة في دول المنطقة. * خبير اقتصادي