غابت الشاعرة اللبنانية هناء الأمين خاتون باكراً وبخفرٍ جارح. توارت كالطيف خلف ابتسامتها الخجلى. وانسحبت الى دواخلها بلا عذر أو خبر وفي صراع ممض مع المرض. وتركت لنا القصائد والصداقة والحزن والتمرد وتلك الوقفة الراسخة أمام القصيدة. انشغلت هناء الأمين خاتون في الفترة الأخيرة على بحث نقدي حول قصيدة النثر في منظور الحداثة. والى ذلك كانت تنشر قصائدها وشذراتها في الصحف اللبنانية. ولما تقدم المرض الى داخل الأسوار تناثرت المشاريع مضرجة بأحلامها. كانت الشاعرة الراحلة وعلى رغم انتاجها القليل نسبياً"لغة تحل جدائلها"1991 وپ"لغير هذلا الهوان"1993 تملك صوتها الخاص وكلمتها المعقولة وحساسيتها المختلفة وإحساسها القوي بالمعنى وتعبيره وتحولاته. ولم تكن اللغة عندها بحسب مفهوم رولان بارت زاداً من المواد بل أفقاً. شعرها يحاول النفاذ الى الجوهر والعمق ويسابق معناه مبناه. ولا يتوقف أمام المرايا بل يسبر الاغوار. وتمتزج في كتاباتها المعاني بالذاكرة والبلاغة والدلالات الرمزية. ولذلك جمع شعرها النقيضين، البيِّن والغامض. ودائماً يدور على ما يمكن تسميته التزام الحزن ومأسوية الحالة وصرخة السؤال. حتى كأن القصيدة تريد أن تتقاطع مع الحزن وتتصل مع اللغة، وتحمل في داخل الكلمات ذلك النداء الصعب واللوعة وذاك المدى الناحل. كان عندها المعنى أن ينجدل في اللغة، والليل أن يقف عند التمائم والضحى، ويسلك. سهرت هناء الأمين خاتون طويلاً مع الألم. وكان القنديل ينوس ولا تبلغ أطرافه وأصداؤه الجهات. كتبت ذات مرة:"ما أصعب ان ننتهي كي لا ننتهي كيف نعبر الى موت يسكننا لا يكتبنا الموت الا ليعود... كيف لا تشتعل الأحزان". كان حدسها يقودها الى نهاية ما. الحزن والموت، الذات والآخر واللغة. ولم تحب أن تُخطئ الضوء. ولا فرق اذا عرفت أم لا. وذهبت الى عناق المساء وحيدة حتى لا يُعرف سر الحزن، ولا يبكي أحد، ولا تنجرح الرهافة في الجوف البعيد. ومع ذلك، على رغم الحزن الطافح أحياناً فوق مآسي القلب والحياة والوجود بقيت هناء تعرف كيف تلقي طرفتها اللماحة في الدائرة القريبة، لنضحك. ولكن، في العمق لا شيء كان يخفف وطأة الحزن والمرض سوى الحب والكلمات. تنعم النظر وتديم كأنها كلمات من شوق لا من حروف. وكأن كل هذا الموج المتأخر من الأحزان الذي مثلته هناء في كتاباتها لأجل أن يتبارك الضوء القليل الآتي. الضوء الطالع من القلب:"قلبي مؤن"، تقول. وكانت تعرف أن ما يتكدس في القلب لا يعرف طريقه الى النور سوى عبر الحب والشعر والفعل ومرافئ اليقظات. لذلك حملت قصائدها الكثير من الأسئلة عن الظلال والألم والمواعيد والغروب واللحظات الماكرة. فالروح القلقة لا تنقذها سوى الأسئلة. سوى صرخة الاحتجاج ضد القدر والظلم والمرض. كانت هناء الأمين خاتون تهدي قصائدها الى أصدقاء وأسماء كمن يهدي الوردة الى رمزها وفضائها."حمل القمر الى الوردة على صدرها وسادة انغام كلما استفاق شدته الأحلام الى عطر صراخ وآخر". ومع ذلك، رحلت الشاعرة التي حفظت لنفسها لوناً وعطراً في حركة الشعر. ولم تزل وسادة الحزن تحفر عميقاً في العروق. كأن الكلمات حين جسدت ذات مرة في وجع الحالة والمصير قد حفظت على الأقل، روحها، والى الأبد.