ليس هناك من بين كتب ستاندال العديدة والتي تضعه عادة في الصف الأول بين كتاب فرنسا في القرن التاسع عشر، ما هو أغرب واكثر اثارة للسجال من كتابه المعنون"مذكرات سائح". فالكتاب، ومنذ صدوره للمرة الاولى في العام 1838، لم يتوقف عن اثارة النقاشات من حوله. وعن اجتذاب كتاب ونقاد الى مهاجمته ومهاجمة صاحبه. وكان ستاندال في ذلك الحين تجاوز الخمسين من عمره وأصبح معروفاً ومرموقاً. بل ان نقاداً كثراً لم يتورعوا عن اتهامه بالسرقة الادبية. وهو اتهام لم يتمكن ستاندال على أية حال من دفعه. وهو ما كان في حاجة الى ذلك طالما ان نقاداً آخرين اشاروا يومها الى ان ليس في الامر سرقات، بل استعارات واضحة. وكان بروسبير ميريميه، الكاتب وصديق ستاندال من هذا الرأي، هو الذي استخدم صاحب"مذكرات سائح"فصولاً عديدة من كتابته دامجاً اياها في كتابه. يومها، اذا كانت صفحات ميريميه قد بدت في كتاب ستاندال معقولة ومنطقية، فإن ما لم يبد كذلك على الاطلاق كان استعارة ستاندال من كاتب آخر هو لويس ميين الذي أدمج الكاتب، فصولاً عديدة من نص له عنوانه"رحلة في الجنوب الفرنسي"ضمن فصول"مذكرات سائح"... فما الحكاية؟ كيف سمح كاتب كبير مثل ستاندال لنفسه بكل هذا الخليط؟ وكيف تراه لم يعبأ بكل الضجة التي ثارت من حول الكتاب؟ الحكاية بسيطة للغاية، ويفسرها على أية حال كون هذا الكتاب، لم يوضع في نهاية الامر بين كتب ستاندال، في مكانة أولى الى جانب"الاحمر والاسود"أو"رحلة الى ايطاليا"أو غيرهما، طالما ان ستاندال كان اوضح منذ البداية انه انما سعى الى كتابة نص آني ظرفي، يستقي معلوماته من اعمال آخرين ويتدخل هو متأملاً، شارحاً، مفسراً الذين انتقدوه يومها لم يتنبهوا الى هذا.. فقط تنبهوا الى ان ثمة حكاية مادية بحتة تقف وراء الكتاب. والى ان ستاندال انما كتبه لضرورات مالية، ما يوحي بالاستخفاف بالقراء والناشرين سواء بسواء. غير ان هذا كله غير صحيح، ثم ان العقود التالية والدراسات حول أعمال ستاندال عادت ووضعت الامور في نصابها، ما جعل الكتاب يستعيد رونقه ويقرأ من قبل كثر بمتعة. أولاً كونه كتاباً في أدب الرحلات، ثم كونه كتاب تأملات في الوجود والفلسفة وحياة البشر، وثالثاً كونه، ايضاً كتاباً لستاندال يمكن ان يدرج ضمن سياق عمله الذي أرخ لعصور طويلة من حياة زمنه، أسوة بما فعل في كتب اخرى له. أما الحكاية"المادية"التي تقف خلف الكتاب فإن ستاندال رواها بنفسه: في العام 1836 كان الكاتب موظفاً في القنصلية الفرنسية في ايطاليا، وتمكن من ان يحصل من الوزير تيار، وزير الخارجية الفرنسية، على فرصة غير مدفوعة الأجر لمدة عامين - وهي فرصة عاد ومددها الوزير الكونت موليه عاماً آخر. وكان ستاندال يريد من هذه الفرصة الإجازة ان تريحه من عبء اشغاله وتمكنه من ان يقوم بجولة سياحية كان يحلم بها منذ زمن بعيد. وهكذا ترك روما وعاد الى باريس وهو شديد السرور، آملاً ان ينطلق من العاصمة في رحلته السياحية تلك. في البداية لم يكن راغباً في ان يكتب أي سطر حول الجولة"لقد سئمت الكتابة.. واعتقد انني لن اعود اليها قبل سنوات طويلة".. هكذا كتب يومها. لكنه بعد ايام قليلة من اتخاذه هذا القرار، اكتشف انه خالي الوفاض مالياً. وان مبلغاً كان يحلم بالحصول عليه يمكنه من القيام بالرحلة، لن يصل ابداً. فما العمل؟ ببساطة اتصل بناشر يعرفه وعرض عليه ان يمول الرحلة مقابل حقوق كتاب يضعه عنها. واذ قبل الناشر هذا العرض.. ولدت فكرة الكتاب وصارت الرحلة ممكنة. وكتب ستاندال:".. ابداً لن يمكنني ان اتوقف عن الكتابة. انها قدري وهل يفلت المرء من قدره". غير ان ستاندال سيغش قليلاً هنا: هو لن يكتب خلال جولته المقبلة أو عنها. بل سينبش في ذكريات وذكريات رحلاته السابقة العديدة، ليطلع بنص يناسب الناشر ويبدو راهناً. وعلى الفور وردت في ذهنه فكرة ان يضع كتاباً يصف فيه مواقع اثرية وقصوراً ومناطق جغرافية ذات تاريخ. والحال ان ستاندال كان في الماضي قد قام ببعض الجولات مع صديقه ميريميه صاحب"كارمن" حين كان هذا الاخير مفتشاً في مصلحة الآثار؟ ولقد عرفته تلك الجولات على عالم الآثار والاطلال المدهش. ولكن، لأن"ستاندال اهتم دائماً بالبشر اكثر كثيراً مما اهتم بالحجر"كما يقول دارسوه توصل الى قسمة عادلة: سوف يستعير من ميريميه والنصوص التي كتبها هذا الاخير الوصف الطبيعي الذي ينقص كتابه، اما هو فسوف يضيف التأملات والتعليقات. ولسوف يقال لاحقاً ان ميريميه لم يغض النظر عن هذا وحسب، بل انه سيشجع ستاندال عليه، وسيزوده بنصوص كانت تنقصه. واذ تبدى لستاندال، ان نصوص ميريميه نفسها لا تكفي راح يغرف من نصوص الكاتب ميين. وهكذا ولد الكتاب. في الحقيقة كان يمكن ان يقال أن"مذكرات سائح"كتاب ولد بتضافر أقلام عديدة.. غير ان هذا ما كان يمكن ان يكون منطقياً. صحيح ان في الكتاب نصوصاً عديدة لآخرين. لكن المهم هو كيف استخدمها ستاندال. كيف ادمجها في سياق كتابه.. كيف اعاد الاشتغال عليها مستحوذاً على الصور التي قدمتها له، ليقدمها الى قرائه شيئاً آخر تماماً. ومن هنا ما يؤكده كثر من النقاد والمؤرخين من ان هذا الكتاب هو في النهاية كتاب ستاندالي بامتياز. بل ثمة منهم من يفضله على كتب اخرى له، وبخاصة منها الكتب التي روى فيها حياة فنانين، مثل"حياة رسام"و"حياة هايدين وموزارت وميناستاس".. اذ يرون انها، في شكل أو في آخر، خلطات حقيقية، اتت معلوماتها من الخارج وبدا تدخل ستاندال التأملي والتحليلي ضئيلاً. اما هنا في"مذكرات سائح"فإن تدخله اكبر بكثير. ذلك ان المهم في هذا الكتاب ليس المعلومات ولا وصف الواقع والآثار والمدن. المهم هو ما يضيفه الكاتب: الحكايات الصغيرة، التأملات الاخلاقية، التناقضات المختلطة. ثم بخاصة تعليقاته على الحالة السياسية والاجتماعية في المناطق التي يتحدث عنها. ومن هنا يرى الدارسون ان"مذكرات سائح"لا يمكن ان يعتبر مجرد"عمل أدبي مكتبي، بل هو كنز من الملاحظات الحادة والذكية ما يربطه - كما أشرنا - باشتغال ستاندال على احوال زمنه". غير ان الطريف في هذا كله هو ان ستاندال، وانطلاقاً من حس ديبلوماسي كان اكتسبه، لا ينسب النص كله الى نفسه بل يفيدنا منذ البداية بأن الكتاب انما هو منقول عن"يوميات بائع جوال يهتم بتجارة الحديد"، ويضيف ان"آراء هذا البائع ليست بالضرورة آراء مؤلف الكتاب"الذي يكتفي هنا بنقل اليوميات وإعادة صياغتها. ثم بعد ان يوضح ستاندال هذا يروي لنا"حياة بائع الحديد"التي يقول عنها انها تكاد تكون رواية صغيرة مؤثرة في حد ذاتها. ثم يستفيض قائلاً ان هذا البائع ينطلق في رحلته ربيع العام 1837 ليستكملها"ويرويها"بعد ذلك بخمسة اشهر. وهو خلال تلك الرحلة يتجول في انحاء عديدة من فرنسا متوقفاً في كل مرة يبتغي فيها حوذي عربة السفر اراحة احصنته وركابه الآخرين. اما الرواية فتطاول كل الاحداث التي تحصل خلال الطريق، وتصف الواقع.. قبل ان يتوقف الكاتب ليقدم عرضاً فلسفياً يلي كل نص مادي وصفي بحت. ومن هنا فإن هذا الكتاب الذي وضعه ستاندال واسمه الحقيقي هنري بيل 1783-1842 انما هو في نهاية الامر جردة حساب للحياة الجغرافية والسياسية والاقتصادية في فرنسا امام الملك لوي فيليب.