يجمع المحللون على أن التصحيحات السعرية التي تتعرض لها معظم الأسواق المالية الخليجية والعربية خلال العام الجاري، تعطي دروساً مهمة لجميع الأطراف المشاركين في هذه الأسواق، سواء كانوا المضاربين أو المستثمرين، إضافة إلى هيئات الأوراق المالية والمصارف والوسطاء والمحللين الماليين ووسائل الإعلام وإدارات الأسواق المالية والمصارف المركزية وأصحاب القرار الاقتصادي. ويمكن تلخيص هذه الدروس بالآتي: 1 - إن ما يحصل في الأسواق المالية لم يعد شأناً يخص شريحة الأغنياء أو الصفوة أو التجار الكبار فقط، بل أصبح قاسماً مشتركاً بين شرائح عدة من المجتمع، بعد دخول الملايين من المستثمرين الصغار الى هذه الأسواق للاستفادة من الطفرة التي شهدتها هذه الأسواق خلال الأعوام الماضية والخسائر الكبيرة التي تكبدوها، وتحديداً المستثمرين الذين دخلوا الى الأسواق متأخرين نتيجة التصحيحات المؤلمة. وأصبحت هذه الخسائر شأناً عاماً. وبما أن الدولة أحرص على الشؤون العامة، خصوصاً أن لخسائر شريحة كبيرة من المستثمرين تأثيرات سلبية اقتصادية واجتماعية وسياسية، تحركت السلطات التنفيذية العليا في معظم هذه الدول واتخذت قرارات تهدف إلى اعادة الثقة والانتعاش إلى الأسواق. وهذا بالطبع لا يتفق مع رأي دعاة الاقتصاد المفتوح، الذين يرون أن ولوج أسواق الأسهم هو قرار شخصي، وبالتالي على الشخص أن يتحمل مسؤولية الخسارة والربح جراء هذا الاستثمار شأنه شأن أي استثمار آخر. وتدخل الدولة في حركة السوق يناقض ما يراد للسوق من استقلال اقتصادي واستثماري. 2 - تدخل الدولة في الأسواق الناشئة، ومنها أسواقنا العربية، لدى تعرضها لمخاطر جسيمة، مرده إلى الاختلالات الكبيرة التي تعاني منها هذه الأسواق، ومنها اطلاع المسؤولين الكبار في الشركات على المعلومات الأساسية والاستفادة منها في اتخاذ قرارات الاستثمار سواء بالبيع أو الشراء، وبالتالي غياب مبدأ تكافؤ الفرص بين المستثمرين والمساهمين وغياب عدالة الحصول على المعلومات. وفي المقابل لم يعاقب أحد من المطلعين على المعلومات نتيجة عدم التزامه الثقة التي منحها له المساهمون. وبالتالي أصبح معظم أسواقنا المالية، في نظر عدد كبير من المستثمرين مخترقاً معلوماتياً. وهذا الاختراق زاد من ثروة المستثمرين الكبار على حساب الصغار منهم. وبات واجباً على هيئات الأوراق المالية التحرك لمعالجة هذه المشكلة المهمة للحفاظ على حقوق المستثمرين، لأن المعلومات تشكل عصب الأسواق والوقود الذي يحركه. وبناء عليه يتحرك الطلب والعرض. من ثم، فإن لتوقيت نشرها وكمية المعلومات ونوعيتها المنشورة أهمية كبيرة في احتساب الأسعار العادلة. 3 - الدرس المهم الذي تعلمه المضاربون والمستثمرون، هو أن الأسواق المالية ليست أسواق مراهنات وحظوظ وأسواق مكاسب لا توازيها مخاطر، بل ان الاستثمار في أي سوق أسهم هو استثمار ذو مخاطر عالية على المدى القصير. وكلما طالت فترة الاستثمار انخفضت المخاطر لأن الاستثمار في أسواق الأسهم بطبيعته طويل الأجل، والمضاربة اليومية في الأسواق هي الأعلى مخاطرة. وعلى المستثمر ان يحدد مسبقاً المخاطر التي يستطيع تحملها. والمستثمر الرشيد والمحترف لا ينظر الى العائدات فقط، بل يأخذ في الاعتبار مقدار الخطر المصاحب لكل استثمار. والناس يختلفون في مقدار الألم الذي يصيبهم عند تحقق الخسائر، وبالتالي لاحظنا حجم الألم الذي أصاب بعض المستثمرين الصغار الذين خسروا معظم مدخراتهم، في وقت أكدت من خلال مقالاتي في هذه الصحيفة حجم المخاطرة عند استثمار أي شخص كل أمواله في الأسواق المالية. ويرتفع حجم المخاطرة إذا كان جزء مهم من الأموال المستثمرة مقترضاً من المصارف، لأن الأصل في الاستثمار في البورصات لمن يملك أموالاً فائضة عن الحاجة وغير مقترضة، لأن تكاليف الاقتراض واضحة ومحددة وثابتة. في حين ان المكاسب التي قد يرى البعض أنها تفوق تكاليف القرض هي أمر محتمل، ومن غير المنطق الاعتماد على مكسب محتمل لتغطية كلفة ثابتة، خصوصاً ان ارتفاع سعر الفائدة على الودائع رفع سعر كلفة الاقتراض من المصارف لتمويل الشراء أو المضاربة في أسواق الأسهم. 4 - من المؤسف أن الآلاف من المستثمرين وبعد تحقيقهم مكاسب من الأسواق خلال فترة انتعاشها هجروا مصادر رزقهم الثابتة والمستقرة. ومعروف أن من الخطأ ترك مصادر رزق مستقرة إلى مصادر رزق غير ثابتة وتحمل المخاطر... وفترة طفرة أسواق الأسهم في المنطقة أثرت سلباً في إنتاجية الموظفين وأداء الكثير من القطاعات الاقتصادية. 5 - بدأ بعض دول المنطقة في درس الترخيص لصناع السوق، بعد التصحيحات القاسية التي تعرضت لها هذه الأسواق، للحفاظ على استقرارها ورفع كفاءتها وعدم تعرضها لهزات عنيفة، وبالتالي خفض مستوى مخاطر الاستثمار في هذه الأسواق من خلال الحد من تقلبات الأسعار صعوداً أو هبوطاً. 6 - أصبحت هيئات الأوراق المالية تشعر بأهمية محاربة الإشاعات بكل الوسائل والطرق، باعتبارها آفة الأسواق المالية واتخاذ كل الوسائل والطرق لرفع مستوى الوعي الاستثماري، إضافة إلى العمل على انتقال صناعة القرار الاستثماري من العاطفة والمشاعر والسير خلف القطيع إلى العقل والمنطق والاعتماد على المؤشرات المالية ومؤشرات الربحية في اختيار أسهم الشركات. 7 - تشجيع تأسيس مكاتب أو شركات متخصصة بالتحليل المالي وتوفير الدعم اللازم لها من هيئات الأوراق المالية، لتقديم النصح والمشورة لشرائح المستثمرين كافة وتزويدهم الأسعار العادلة لأسهم الشركات المدرجة. 8 - تشجيع المستثمرين الصغار على الاستثمار في الأسواق المالية من خلال صناديق الاستثمار، التي يشرف على إدارتها محترفون ومتخصصون وبالتالي خفض مستوى المخاطر في ظل انخفاض مستوى الوعي الاستثماري لشريحة كبيرة من المستثمرين الصغار وعدم قدرتهم على اختيار الأوقات المناسبة للشراء أو البيع. 9 - تدرس هيئة الأوراق المالية في دولة الإمارات وضع الآليات المناسبة للرقابة على المحللين الماليين الذين يظهرون على شاشات التلفزيون أو ينشرون تحليلاتهم في الصحافة، للتأكد من صدقيتهم وخبرتهم وأمانتهم وحيادهم وكفاءتهم وعدم وجود مصالح لهم عند التعليق على أسعار أسهم أي شركة، حيث ساهم بعض المحللين في فترة سابقة في إشعال نار المضاربات وتوفير المبررات للمبالغة في أسعار أسهم بعض الشركات. 10- يعتبر موضوع السيولة وتجفيف منابعها، سواء من خلال الإصدارات العامة أو زيادة رؤوس أموال الشركات من خلال تراجع تمويلات المصارف وغيرها، من الآليات التي تدرس الآن، إضافة إلى دراسة أسباب عدم تفاعل الأسواق المالية مع نتائج الشركات، وبالتالي اختفاء القوة الشرائية على رغم جاذبية الأسعار واستمرار توافر الأساسيات التي عززت أداء هذه الأسواق والشركات المساهمة، والمرتبط بموضوع ثقة مختلف شرائح المستثمرين في الأسواق. * مستشار بنك أبو ظبي الوطني للأوراق المالية