"الحرب ميراث أبي... أنا لا أمت اليها بصلة، ولا أعرف عنها شيئاً. لي ذاكرة جديدة". طقس نيسان ابريل في دبي جميل. صيفي الى حد كبير، وروح الشهر الربيعية لا يعرفها غير المحتفظين بروزنامات مطبوعة في بيروت ومدن أخرى. تلك التي تحمل أوراقها المربعة البيض، التي تميل الى الاصفرار، كأنها قديمة منذ طبعت، وكأن حبرها يختفي في لحظة الطباعة... تلك الاوراق كتب في اسفلها احتفاء بالأعياد والمواسم، وتعاليم وأقوال وأحداث وأمثال تنشر حكمة العيش وتعين عليه في المواسم المتبقية. لكن الربيع لا يحتاج الى حكمة ولا حكيم لكي يحتفي به، وروائحه في الأنوف مشتهى، كما ألوان الفراشات وزهر اللوز، لكن نيسان الربيعي، يحتاج الى حكمة كبيرة... لنسيانه. روزنامة صفراء الروزنامات ليست"احتياجات غربة"رئيسية. بمعنى أنك لا تفكر بها حين تحزم حقائب السفر، بعكس الصور ولفّة علم البلاد، وربما أعشاب تافهة ولكن دافئة. أما الذكريات، فهي صنعة المصارعين في هذه المدينة. عليك أن تصارع لكي تحمي العتيق، العالق من الطفولة والمدرسة والجامعة ومجالس الأصدقاء. كأنك تخطو في هذا المكان فوق زفت يغلي تحته"معجون"هادر، ويتفجر من فوهات كثيرة مشاريع وأبراجاً. نوافير هائلة من"المعجون"تتطاير دفقاً ورذاذاً في الساحات والشوارع. هنا، في دبي، لا يمكنك أن تعيش وسط كل تلك النوافير، من دون أن تحفر آثارها على يديك.. والذاكرة. أما"العتيق"، فيبقى لك أمران تجاهه: اما أن تقبل فكرة أنه بدأ يصفر، على رغم أنه غير سحيق ومولود حديثاً، كأوراق الروزنامة المربعة، فلا تعود، في هذه الحال، راغباً بتتبع نشرة"أل بي سي"الفضائية اللبنانية، وكما تسد أذنيك عن نشرة"نيو تي في"كذلك، ولا تتصفح مواقع الصحف المحلية على الانترنت، ولا تسأل الآتين من لبنان أسئلة معمقة عن الشأن اللبناني، الذي يصبح"داخلياً"، كما تقول لصديقك الآتي من نيوزلندا:"لم أعد أهتم الاستماع الى أخبار لبنان. هي ذاتها، تتغير الأسماء وظروف الزمان والمكان، ولا يتغير الأساس. الفاعل هو الفاعل دوماً، والمفعول به يظل مفعولاً به"، يقول حسام رافضاً أن يبدي أي اهتمام بذكرى الحرب اللبنانية التي تمر عليه للمرة الثالثة، وهو مقيم في دبي، يصحو من سريره كل صباح على عجل، ويلهث باتجاه مكان عمله في"مدينة الاعلام"متمنياً، ودبغ من آثار النوم لا تزال جاثمة على عينيه، يفركها لكي يكون له متسع من القدرة على تفقد الطريق الصاخب الضاج المزدحم،"المجنون"، بحذر:"هاجمني تاريخ بدء الحرب اللبنانية في هذا الصباح من دون أن أهيء ذاتي. لمحته صدفة يشعّ في لوحة السيارة، الى جانب التوقيت ودرجة الحرارة ومؤشر بنزين المحرك. 13 نيسان، هكذا ظهر الرقم وكبر كثيراً في عيني وذاكرتي. لكنني أشحت بنظري، وانتبهت الى أنه يتوجب عليّ أن أقف عند محطة الوقود التالية كي أملأ خزان السيارة بالسائل الأسود". كابوس السائل الأسود "السائل الأسود"كابوس غريب لا يتوقف عن ملاحقة نهى، منذ مغادرتها بيروت قبل سنتين واقامتها في دبي:"أحلم بأنني في مطار دبي، عند نافذة تفقد الجوازات. من حقيبة سفري ينساب سائل أسود يخط طريقي حيثما تنقلت. من الطائرة وصولاً الى ساحة سيارات الأجرة. ثم هناك ذلك العامل الهندي، بخرقة بالية، يتبعني طوال الوقت ويمسح السائل المنساب خلفي". تزور نهى عيادة طبيبة نفسية اماراتية، في منطقة"شاطئ الجميرا"المشمسة، ظهيرة كل خميس من كل أسبوع:"تحاول أن تجد تفسيراً لهذا الكابوس، وأعجز أن أجعلها تستوعب ما يخيفني تحديداً. دبي مدينة آمنة للغاية، وحين تتجول فيها لا تشعر بما يدعوك للخوف، لذلك أعتقد بأنني أتيت بكابوسي من بيروت. اعتقد بأنني نسيت، لكن الواضح أنني لم أفعل". لا تعلم الطبيبة الاماراتية شيئاً عن"مريضتها". تلك تزورها ولا تخبرها الكثير."على سبيل الزيارة فقط، كي أهون عليّ وطأة الأمر، لكنني لا أقول لها شيئاً". في السنوات الأخيرة للحرب اللبنانية، تم اغتصاب هدى مرتين في احدى ليالي الشوارع المحترقة:"مضى أكثر من 15 عاماً على الحادثة، وكنت أظنني تصالحت معها، حتى أتيت الى دبي. غريب. هذه المدينة توهمك بأنها قادرة على أن تخترع لك ذاكرة جديدة، لكنها لا تفعل، ويصير الالتصاق بالذاكرة القديمة محاولة بناء شيء جديد مبهر تحبه وتخافه في الوقت ذاته. تريد أن تسكن فيه ولا تريد له أن يسكن فيك في الوقت ذاته". الاضطراب لا يولّد فقط"الكوابيس". فاضطراب حسين، الذي عاشه في لحظة يأس قاتمة،"كانت مسيطرة على كل الشباب في لبنان"، دفعه لمغادرة قريته في الجنوب، مصمماً ان يأتي الى دبي:"أوروبا خيار صعب، والولايات المتحدة رفضت وضع ختم تأشيرة على جواز سفري، فصممت على الرحيل الى دبي". كانت حياة المدينة المفتوحة على فضاءات العالم الواسع، تبرق في عينيّ حسين، الذي اكتشف أن هناك أمكنة أخرى تتسع لفضاء أوسع من الفضاء المخنوق برائحة السياسة الفاسدة والقتل والدم والكذب ولغة القطيع."لا أتذكر تاريخ الحرب اللبنانية، ولا أظنني أريد. فإن فعلت، سأنجر مجدداً الى أسئلة النفق المظلم". يضحك ويضيف:"أفضل القيادة في أنفاق دبي الكثيرة. أظنها أسهل. المدينة هنا سهلة جداً، ولا تحتاج أن تدون فيها أي تاريخ. هناك تاريخ واحد يصنع ويجهز وتعمل ماكينة كبيرة على بنائه، ولا أحد يريدك ان تشارك في تدوير الماكينة، وبالك مثقل بتواريخ أخرى". "كان أبي غارقاً حتى أذنيه في شؤون حرب لبنان. ثم جاء يوم وقال لنا، سنذهب الى الصحراء. اليوم، لم يعد هذا المكان كما كان قبل عشر سنوات. وصار أبي مديراً لشركة عقارات زرعت أبراجاً كثيرة في تلك الصحراء". الورود على مستديرات الطرق في دبي، زاهية الألوان. قد لا تكون ربيعية، لكنها تستعيد روح الربيع وتذكر به. أما الذكريات المرتبطة به، ومنها ذكرى الحرب اللبنانية، فيفضل كثر من الشباب اللبناني المقيم في المدينة أن يبقى مفصولاً عنها:"تلك ذاكرة شوهتنا تحت عنوان وهمي هو اكتشاف الحلم وصونه. هنا، في دبي، هناك فرصة كبيرة لتحقيق أحلام كثيرة. أحلام قد تكون تافهة في نظر البعض وصغيرة في نظر آخرين، لكنها، على الأقل، حقيقية".