الذين عرفوا محمد سيد أحمد مباشرة أو من خلال عطاءاته الفكرية السخية أو الذين كانت نضالاتهم مستوحاة من تجارب جهاده، أحيوا أمس في الذكرى الأربعين لرحيله بحياته لا بموته، فهو موجود في وجداننا وحي في ذاكرتنا، الفردية والجماعية. محمد سيد أحمد الذي اثرى الثقافة السياسية المعاصرة بشكل كثيف كان - وسيبقى - نموذجاً لتواضع العالم الحقيقي الذي يقنع دون أن يملي، يتوخى الدقة لترسيخ الالتزام، يخضع ما يبدو من معتقدات مسبقة لامتحانات قاسية، فهو كان - وستبقى مدرسته - حوارياً بامتياز يؤكد مواقفه من التحديات، وكان مستعداً دوماً لتعديلها وتصحيحها ما جعله طوال سيرته العقائدية والفلسفية منفتحاً على الغير مثلما كان دوماً يتوقع من الغير الانفتاح على اسهاماته. كانت الاستقامة الميزة السائدة في حياته العامة مثلما كانت في حياته وعلاقاته الخاصة. كان العالم عالمه، لذا درسه وتعامل بجدية فائقة معه يرفده بتجارب شعبه وأمته ويدخل المخاضات الثقافية الحاصلة بزخم في ارجاء تحليلاته وكتاباته وفي صميمها. فكان جسراً للتواصل الحي بين عالمه والعالم، يعطيه بسخاء ويأخذ منه بكرامة. وكان يقوم بهذه المهمة الصعبة والشديدة التعقيد كأنها من صميم مهماته العادية اليومية. وهكذا أخرج الفكر القومي من مهلكة التقوقع والتزمّت كما وظف كفاءاته في الإعلام والاتصال لتوعية العالم على مشكلات شعوبنا العربية وقضاياها. فالشرائح التي تم التواصل معها في المجتمع الدولي احترمته لدرجة الاجلال، كما أن المدرسة الحكيمة التي عمّق مفاهيمها التقدمية من شأنها أن توفر للأجيال الصاعدة المنارة الفكرية التي تبقيها بمنأى عن الانغلاق المجحف الذي ألحقته النزعة الشمولية بالشيوعية وعن الفلتان والفساد اللذين ألحقتهما الرأسمالية الجامحة بالديموقراطية الرحبة. ومن هذا المنظور، فإن دراسة تاريخه النضالي وكتاباته وتعليقاته على الأحداث الجسام التي عصفت ولا تزال تعصف بأمتنا وبالعالم تفتقد هذا المعلّم. وهذا المعلم، لكن إذا كان من يسار عربي جديد من شأنه أن يكون للحيوية عند شعبنا، فالموسوعة التي وهبها محمد سيد أحمد تشكل بعداً مهماً من بوصلة موثوقة كي تبحر الأمة في منهج نضالها يخرجها من حال التخبط والاحباط. فلا تعود الجماهير منبهرة بالأجوبة السهلة للمعضلات المعقدة والصعبة ولا تعود في توسلها لمعالجة نواقصها عرضة لانجذابات تدعي اختزال مراحل الحلول المطلوب النفاذ الى نجاعتها. محمد سيد أحمد ظل مصراً على ضرورة الحرص على مناعة المجتمع حتى يؤكد الثوابت الضامنة لوحدة الهوية والمصير، وأن تتكيف هذه الثوابت مع المستجدات المتلاحقة، وأن تحول المناعة الوطنية في المجتمعات العربية دون الانزلاق في مصيدة تحول المستجدات الى بدائل للثوابت. هنا نفتقد حضور محمد سيد أحمد، لا حضوره الغني في عطاءاته، بل نفتقد الإنسان الذي رفض التشويش على الحقيقة وميّز بين هشاشة الإلمام وأصالة المعرفة، كما عمل بشكل دؤوب على ضرورة الحرص على حرمة الكلمة وصدقية النص في الخطاب العربي. كان محمد سيد أحمد قائداً من دون أن يعرف؟ كان نموذجاً - وسيبقى - لتواضع العظماء والنموذج المقابل لاستكبار صغائرنا. لم يسعَ محمد يوماً الى سلطة، لكنه مارس نفوذاً هيأه للاسهام في صناعة التاريخ. صعب جداً أن نكتب عن محمد سيد أحمد... لكن إذا أردنا لأمتنا نهضة ما، فعلينا درس ارثه، وخصوصاً منهجه. لعل الدرس الأول أن نستحضر بساطته وعملقة تواضعه. لن تكون القاهرة من دون محمد سيد أحمد بالنسبة إليّ على الأقل، هي نفسها. لعل الذكرى الأربعين تعيد شبق حضوره الدائم... كما أرجو وكما أتوقع. * كاتب ومفكر عربي.