لم تستطع"الديموقراطية"الجديدة في العراق تغيير الكثير من النظرة الرسمية الى الشعر والشعراء. صحيح ان أحداً لم يطلب منهم مديحاً للحاكم، مثلما كان الوضع في عهد صدام. لكن الضغط لم يختلف كثيراً. ونقل شعراء عراقيون عائدون من البصرة 500 كلم جنوببغداد حيث يعقد مهرجان المربد الشعري من 15 الى 17 الجاري تفاصيل انسحاب عدد من الشعراء من قاعة المهرجان، احتجاجاً على كلمة مسؤول في وزارة الثقافة، قال انه تم تخصيص رواتب للشعراء، فيما هرب شاعر الى لندن عبر الكويت، اثر تهديدات تلقاها من ميليشيات مسلحة بتصفيته بعد إلقائه قصيدة أثارت جدلاً. وروى شاعر عائد الى بغداد رفض الإشارة الى اسمه ان المدير في مكتب وزير الثقافة عقيل المندلاوي من التيار الصدري أثار استياء الحاضرين حين قال ان"وزير الثقافة سعى جاهداً لتخصيص رواتب للأدباء العراقيين، وهي قضية أصبحت بحكم المصادق عليها في مجلس الوزراء". وأضاف ان"الأدباء غير راضين عن أداء الوزارة، لكنهم حين يتسلمون الدنانير سيتغير موقفهم"، في اشارة الى ذل الأدباء أمام الدنانير، فثارت ثائرة القاعة، وهدد الجميع بتركها، إذا لم يعتذر المندلاوي. ولم يفلح رئيس اتحاد الأدباء فاضل ثامر في تهدئة الموقف. وأكد شاهد انسحاب العدد الأكبر من الحاضرين، بينهم الشعراء: نعمان النقاش وخالد الخرزجي الذي دعا المندلاوي الى الاعتذار بنفسه عن الاساءة. وفي الجلسة المسائية من اليوم ذاته كادت الجرأة ان تودي بحياة الشاعر المقيم في لندن عدنان الصائغ حين قرأ قصيدة اعتبرت تهجماً على الوضع، بعمقه السياسي والثقافي. ففاجأه أحدهم هامساً في أذنه:"يا عدنان الصائغ أنت غير مرحب بك في المربد، عليك مغادرة القاعة، وإلا فالموت ينتظرك". واضاف:"ستتجرع قصائدك التي قرأتها اليوم فقد تعرضت بالسوء للدين". لم ينم الصائغ ليلتها في فندق العيون. غادر الى جهة مجهولة في البصرة ثم انتقل الى لندن عبر الكويت. وانعكس التوتر الأمني العام في البصرة على جلسات المهرجان التي استمع خلالها الحضور الى نصوص غلب على معظمها الطابع الوطني. وحضرت القصيدة الدينية التي غابت في دورات المهرجان خلال الثمانينات والتسعينات بقوة هذه المرة، عبر قصائد ذات نفس يقترب من"القصائد الحسينية"، في حين شهدت قاعة المهرجان حضوراً كثيفاً للعمائم السود والبيض التي كانت غائبة عن نشاطاته في السنوات السابقة. ولم تدرج زيارة بيت الشاعر بدر شاكر السياب في قريته جيكور في البصرة ضمن فعاليات المربد هذا العام، واكتفى القائمون على المهرجان بالندوات الشعرية والمحاور النقدية في مدينة تنام باكراً بسبب الوضع الأمني. وكان وكيل وزارة الثقافة مدين الموسوي من المجلس الأعلى للثورة الاسلامية افتتح المهرجان بكلمة مرتجلة طويلة استعرض فيها السياسة، أكثر مما تحدث عن الشعر والشعراء، مذكراً الجمهور بالكلمات التي كان يفتتح بها طارق عزيز أو حامد يوسف حمادي، أو طه ياسين رمضان المهرجان أيام النظام السابق. ثم توالت كلمات الترحيب من كل صوب، حتى مل الجمهور الانتظار ودب اليأس في النفوس من سماع شعر في يوم الافتتاح الذي عادة ما يقدم فيه شعراء الدرجة الأولى إن وجدوا. غير ان الجهة المنظمة ارتأت تقديم فاصل غنائي وطني، فخرجت كمانات خائفة وآلة أورغ لا أحد يعلم أين كان يخبئها صاحبها. ووقف صف منشدين وجلين يرددون أغنية طالت مقدمتها الموسيقية، واضطر معها رئيس مجلس محافظة البصرة، مع بعض حراسه الى مغادرة القاعة، امتثالاً للأمر الذي يقضي بعدم الاستماع الى الغناء، فهو معصية في نظر الشارع الاسلامي سنياً كان أم شيعياً.