ثمة علاقة وثيقة بين طبيعة النُظم السياسية الإيديولوجية، وإفرازاتها الثقافية، وإن كانت علاقة بالغة التعقيد، خصوصاً في ما يتعلق بين النظرية والتطبيق. ويمكن تلمس ذلك في التصريحات التي أطلقها أخيراً وزير الثقافة الفلسطيني الجديد عطا الله أبو السبح، في الجملة المفتاح الأقرب إلى كلمة السر، حينما تحدث عن"الاهتمام بجيل الشباب وتحصينه"، وضد ما أطلق عليه اسم"الغزو الثقافي والفكري"، مع الأمل بأن لا تكون كلمة"تحصين"بمثابة المفتاح لقمع الثقافات الأخرى، رغم أنها تثير الحذر والقلق من"الثقافات الأخرى"أي غير الحمساوية، فضلاً عما يرسمه من معالم مقبلة لدى إجابته عن سؤال بشأن أرشيف وزارة الثقافة الفلسطينية وأشرطتها من أفلام وثائقية وروائية، اذ قال:"سيجري العمل عليها بالتصنيف والتبويب والحذف والإضافة والإقرار، يمكن أن نقر بعض الأشياء بالحذف أو الإضافة … سواء كان النشيد أو المسرح أو حتى الفيلم، هناك بعض الأفلام التي يمكن أن تشكل الثقافة لدى الإنسان الفلسطيني …""وتبرز هنا كلمة الحذف أي القص، من الهامش إلى المتن. ويترادف هذا، مع إدراج كلمة"تحصين"، فهي متلازمة في الخطاب الثقافي السياسي الراهن، وتنسحب على حقول أخرى: الإعلامية، التربوية، من دون أن نستطيع تعيين موقع"التحصين"، وهكذا فإن كمية الالتباس هي كبيرة ولا تحتمل، وبالذات في اللحظة التي أصبح فيها معلوماً أن الثقافة هي كل أنواع الاتصال والتواصل بتنوعه وتعدده، والاستهلاك والتعبير والإعلان، والكتابة والعلوم، والملبس والمأكل وأنماط العيش. وحين لم يتبدد الالتباس، بل اختصر بحسب الوزير ب"أنوشكا ومصطفى قمر في مهرجانات فلسطين"، وفي ذهنية التحريم والمنع، بسببٍ من أن"طلعوا الشباب والصبايا على المسرح لتقبيل المطربين". بين حقبتين فلسطينيتين، ثمة إشكالية لم يعد بالإمكان تغييبها من جانب المعنيين بالحل، ورغم كثرة التنظيرات والتحليلات والتفسيرات المتصارعة والمتناقضة، التي ينفي كلٌ منها صلاحيات الآخر، عبر قراءة وتأويل وتحليل عناصر مكونات الخطاب الثقافي الفلسطيني في راهنية زمنه المحدد، وسبق له أن عانى خلطاً في الأوراق، وانتقائية في المناهج والرؤى، أدت به إلى نوع من العشوائية التي بددت الأولويات، في الوقت الذي هو بأمس الحاجة إلى دليل عمل جامع متعدد وموحد، وبمثابة قانون إنقاذ، باعتباره مفتاح حياة، بحكم الاختيارات والسلوكيات الثقافية، ويحصنها من التلقائية والضياع والاستئثار السابق. وتشير كلا الحالتين بوضوح، الى وضعية فكرية معقدة وملتبسة، لما تشكل من أزمة محتدمة في سياق التناقض والاستقطاب، بين قطبين تعاقبا ديموقراطياً، والأخير، وإن بلغ أفكار ورؤى ونظريات الحداثة وما بعدها، فانها لم تؤثر به، رغم الانعكاس في التحولات اللاهثة للثورة التكنولوجية المعلوماتية، وعلوم الاتصال والتواصل، والأقمار الصناعية، وشبكات المعلومات العالمية. واختزال هذا الاستحقاق بالمنع والتحريم من المشاركة في المهرجانات الفلسطينية، وفي هذا التعيين للتحريم، لا يبرز كقطب مضاد، بل أدنى مرجعية، في المواجهة بين الإيديولوجيا الأصولية وبين العقلانية النقدية والعلمانية، فالأولى رافضة للفكر النسبي والتعددي وأُسس المجتمع المدني الحديث، وبناء الجسور الثقافية على هذا التنوع والتعدد. ومع تأكيدنا أن الأصولية لا تتوقف على الفكر الديني، حين تبرز من داخله استعادة جدانوفية نسبة الى المفوض العام للثقافة الستالينية ، وفي ثنائية"مثقفي السلطة"و"مواطنين أم رعية"، حينها نتخيل جدانوف بالعمامة، وأصوليون بقبعة جدانوفية، انطلاقاً من نظرة مشتركة، وإن اختلفت أهدافها ووجهتها ومراميها، تقول"بالإصلاح والضبط الاجتماعي". بيد أن فكرة الإصلاح الاجتماعي المستهدفة، هي أحوج ما تكون إلى الدراسة والبحث الجاد من قبل المؤسسة والوزارة، باستعراض الحاجات الثقافية لأغلبية الفلسطينيين، من الموظفين والمدرسين والعمال والفلاحين، فهؤلاء يدفعون ما عليهم من ضرائب مرتين الاولى في كلفة الاحتلال الاسرائيلي الوحشية والباهظة، والثانية بدفع ما عليهم من ضرائب للمؤسسات التنفيذية، ومن دون أن يحصلوا على الحد الأدنى من احتياجاتهم الثقافية، وهذا يؤكد ضرورة الإصلاح، التي تعزز العقد الذهني بين المؤسسة التنفيذية وطبقات المجتمع، حين نتمثل الحاجات الثقافية بمعناها الواسع. فضلاً عن عناصر الثقافة المعروفة من إبداع أدبي وفكري وفني، أي نحو عناصر التعليم والإعلام والمؤسسات الدينية والرياضية، الأمر الذي يشكل المدخل الأساس لمعرفة النسق الذي ينظم الأفكار والمعتقدات والمشاعر لأبناء المجتمع في لحظته الراهنة، وصولاً إلى دراسات موثقة بالإحصاءات، فالثقافة الآن هي سلعة مرتفعة الثمن لا يقدر على شرائها معظم الفلسطينيين، رغم أنهم الممولون الأساسيون لمؤسسات الثقافة الفلسطينية، ولم يعد من المفيد التغني بحسب الوزير"بأننا أكثر شعب متعلم في المنطقة، ولدينا نسب تعليم 85 في المئة، ونسبة 15 في المئة غير متعلمين"، رغم أن هذا التغني يحتاج إلى تدقيق، بدلاً من الاختباء وراءه في حيادية باردة. في كل مرة يجد المثقف الفلسطيني نفسه في ورطة لا يحسد عليها، اذ سبق أن أُلغيت المؤسسات وفُبركت الاتحادات التي تهيمن عليها وزورت إرادتها، أما الآن فبات القلق مشروعاً، كذلك الخوف من الانغلاق والتسوير، الخوف على الرأي، والموقف من الاعتبار الثقافي المحض، في فرض خطاب واحد عليه بعد اقتحامه، وبما يمثل من استهتار بقدرة الثقافة الفلسطينية وتفوقها بتعددها على الثقافة الصهيونية، تلك الثقافة التي لا تملك سوى استعارة الخطاب الثقافي الغربي، وهو الخطاب الذي إذا ما أحسن الفلسطينيون تملكه، فإنه لن يبقي لإسرائيل أي تبرير بالاختلاف، كما هو مدعى أي بالوجود ، والالتباس في هذا الموضوع، هو بمثابة مثال نموذجي على الجمود الإدراكي للنخب التنفيذية الرسمية، وباعتباره حلقة مفقودة. كما أن الصيغة الفضفاضة التي يرتديها مفهوم المثقف الفلسطيني، لن تمكن من تحديد إشكالاته وموضوعه، ودون معاينة وسط المثقفين، المأخوذة بمقدار تناسبي بين أجزاء مكونات الصورة، وتعددها بأطيافها. فجزء من هؤلاء المثقفين، استطاعت الأجهزة التنفيذية تسخيره وشراء صمته، ومن ثم تحويله إلى بوق للدعاية والتبرير والتضليل، باعتباره"سلاحاً فكرياً"، وآخرين تم ابتلاعهم سياسياً لاستخدامه في معارك التيارات الفكرية السياسية، وآخرين يحاولون الحفاظ على حيادهم لصالح موقع الشأن العام، رغم أن هذه الحدود بين الأقسام الثلاثة ليست نهائية أو مغلقة، في حركة عبور وهجرة، وهجرة معاكسة. وكل هذا يؤدي بالنتيجة إلى تكرار واقع الأزمة، لا نقدها والمساهمة في لفظها. وعلى سبيل المثال يبرز هنا، موضوعتيّ اتحاد الكتاب، والصحفيين بين الداخل والخارج. ويستقبل الآن المثقف الفلسطيني وزارة الثقافة في عهدها"الحمساوي"بالتأثير الصادم بمواضيع مترابطة في ما بينها، القلق من تسلط منهج أحادي حاكم في التعاطي مع الموضوعة الثقافية، وفي مرحلة تحرر وطني تشهد تسلط احتلال وحشي يطال رموز الثقافة ومجموع مناحي الحياة الفلسطينية، ومد الإيديولوجيات الأصولية في المحيط الخارجي، والذي يراد له أن يتغلغل في كل مسامات الحياة، وبما يعبر عن سقوط مدوٍ للأحلام الثقافية الثورية، وفي محاكمتها التاريخية التي تتعرض لها نظريات التغيير والتقدم الاجتماعي. وعلى هذا الواقع، فإن المثقفين الفلسطينيين أمام مجموعة من المهمات تتنافس بالأهمية والإلحاحية، منها القيام بمراجعة نقدية فاحصة وشاملة للماضي، وللتراث السائد ماضوياً، ونحو الحاضر، ومراجعة طبيعة العلاقات السائدة بين التيارات الفكرية التي ينتمي لها المثقفون، وتبني احترام مبدأ التعددية والتخلي عن عقلية"القبائل"التي وسمت جوانب من الحياة الثقافية الفلسطينية. كما يتطلب بناء جبهة واسعة للدفاع عن الثقافة والمثقفين، بدءاً من الاتحادات النقابية الجامعة، والإفادة من مناهج العلوم والنظريات الحديثة بدون"تأليه", عبر البحث عن مشروع للحداثة يستجيب لخصوصيات استيعاب كل قيّم ومنجزات المجتمعات الأخرى، وفي تعددية إلى رحاب مؤسسات المجتمع المدني بدلاً من صرف"الجهد الفكري"في أحلام يقظة عن أدلجة معينة للمجتمع، تلخص بمنع أنوشكا ومصطفى قمر من المشاركة بالمهرجانات الفلسطينية. * كاتب فلسطيني.