تتيح قراءة كتاب"مندوبة الأحلام"الإمارات - 2005 للمخرج الفلسطيني فجر يعقوب، معرفة وافية بالسيرة الذاتية السينمائية فيلموغرافيا للسينمائية الفلسطينية مي المصري، وتزودنا بإطلالة جميلة على حيوية هذه الإنسانة ونكهتها وآرائها، وهي تروي مشوارها مع السينما من خلال شراكتها مع زوجها السينمائي اللبناني جان شمعون، ثم من خلال أعمالها الخاصة المستقلة التي قامت بها بعد سياق تطور طبيعي للخبرة والرؤية، وبعد تفاهم حضاري بين الزوجين يقوم على احترام الخصوصية الإبداعية لكل منهما والتعاون في ما بينهما في النواحي المعنوية والتقنية المتعلقة بالانتاج والتوزيع. ربما يذكرنا فيلم"زهرة القندول"لجان شمعون ومي المصري الذي يتحدث عن معسكر أنصار ونضال رجال ونساء أهل الجنوب اللبناني وصمودهم، يذكرنا بالإخراج المشترك بينهما الذي بدأ سنة 1982 خلال حصار بيروت بعد تخرج مي المصري في جامعة سان فرانسيسكو عام 1981 ونيلها شهادة دبلوم دراسات BA في الاخراج والتصوير وتعرفها الى جان شمعون في بيروت عندما كان يعمل متطوعاً في مؤسسة السينما الفلسطينية فجمعتهما السينما وفلسطين وتزوجا وأنجبا ابنتيهما نور وهناء، وكانت حصيلة هذا الاخراج المشترك مجموعة من الأفلام: تحت الأنقاض 1983، "زهرة القندول" 1986، بيروت - "جيل الحرب" 1988،"أحلام معلقة"1992. نالت جميعها الكثير من الجوائز العربية والعالمية، اضافة الى تصوير عدد من الأفلام القصيرة. أما الأفلام التي أخرجتها مي المصري وحدها حتى الآن فهي أربعة:"أطفال جبل النار"1990،"حنان عشراوي - امرأة في زمن التحدي"1996،"أطفال شاتيلا"1998 وپ"أحلام المنفى"2001. فازت كلها بالكثير من الجوائز العربية والعالمية. وفي مقدمة كتاب"مندوبة الأحلام"التي كتبها الناقد السينمائي اللبناني إبراهيم العريس، يرى الناقد ان سينما مي المصري لا تنحو الى قول خطاب معين، بل هي سينما تعيد ترتيب الواقع، كما تفعل السينما الروائية، ولكن هنا مع"ممثلين"تطلب منهم المخرجة أن يلعبوا أدوارهم الحقيقية في الحياة. انها تسبر أغوار الأشخاص من دون أن تتوقف طويلاً لتحليل الأحداث، فهي تقول ان"الأحداث تحدث من تلقاء نفسها... إنني محظوظة، إذ في مرات عدة وفيما كنت أصور وأبحث وأدهش أمام عالم أتسلل اليه، تسلل المنتمي لا تسلل المتلصص كانت الأحداث سرعان ما تتصاعد من أحداث صغيرة الى أحداث كبيرة. كان حظي أن تكون الكاميرا هناك لتصور ما لم أكن أتوقعه، ما كان ولا يزال يضفي على فيلمي أبعاداً تخرج به عن إطاره المعد له أصلاً". الأطفال الفلسطينيون في ثلاثية مي المصري أطفال جبل النار، أطفال شاتيلا، أحلام المنفى يلعبون أدوار أطفال فلسطينيين، أدوارهم الحقيقية في الحياة، هؤلاء الأطفال الذين تقول عنهم مي"انهم يصنعونني بقدر ما أصورهم وأحولهم نجوماً من نوع خاص". الحدود تنعدم في سينما مي المصري تنعدم الحدود ? كما يقول إبراهيم العريس ? بين المصوِّر والمصوَّر، تماماً كانعدام الحدود بين المتخيل والواقعي، وبين فلسطين ولبنان. والعنصر الوحيد الدخيل في الموضوع هو الجندي الاسرائيلي في"جبل النار". فهو يبدو بعيداً، غريباً... وأحياناً مثيراً للشفقة... انه الواقع الوحيد غير المشتغل عليه. ووجهه الوحيد الذي لا يبدو انه يريد ان يقول شيئاً. في المقابل، فإن أطفال المخيمات، إذ عرفوا أنهم أمام كاميرا تصورهم، أرادوا ان يقولوا أشياء كثيرة، وليس فقط الحرب والمعاناة كما يحدث دائماً في الأفلام الفلسطينية الروائية، إنهم يتحدثون عن الحب والزواج، عن الجمال وعن السينما. إنها سينما تقول قضية، وقضية مي المصري المحورية هي فلسطين، فلسطين كوطن لا يزال قيد التكون، وهوية يجب على الصورة ان تحفظها من الاندثار. ثمة مغزى لإهداء الكتاب، ففجر يعقوب يهديه"الى حنان عشراوي، التي تعيش في بيت بالقرب من سجن استخدمه الانكليز، والأردنيون، والاسرائيليون، وتأمل ألا يستخدمه الفلسطينيون". في كتابه هذا، لا يقدم فجر يعقوب مجرد حصيلة معتادة من الأسئلة والأجوبة كما نرى في بعض الكتب. صحيح انه أجرى لقاءات مع مي المصري في مقهى الروضة البيروتي"المهيمن على البحر بپكأس شاي صغير من النعناع"، لكنه يقدم في مواضع عدة من الكتاب، بعناوين منفصلة وبتمهيد للحوار، قراءته النقدية وتحليله الفني لجملة من القضايا السينمائية والانسانية، بلغة شاعرية تصويرية متألقة:"كيف لك أن تشاهد نصف فيلم، ولا تنسى نصفه الآخر؟! تبدو لي نظرية البيت الخيالي، من خارجه على الأقل، انها بحاجة الى ترميم"ص 21..."ثمة شخص مهم جداً يتطلع إليك من وراء اللصاقة... إنه أنت تنام في المنتصف وتحلم، وتنسج فلسطين على نول الخلاص، فيما النسوة يطرزن الزمن مهرباً على شاكلة أرق في خمسين مزهرية يحملها رجالهم في صدورهم ويقدمنه للمخرجة التي تقف أمام الكاميرا، مع أهل نابلس، أهلها"ص 26. تقسم مي المصري السينما الفلسطينية الى ثلاثة أجيال، جيل الثورة جيل التوثيق والذاكرة، وجيل الثمانينات الذي تنتمي اليه وهو الجيل الذي بدأ بحثه عن اللغة الخاصة وحاول جاهداً استرجاع الصورة"التي لم تكن بيدنا، فهي دائماً كانت بحوزة الأجنبي، والعربي الى حد ما، ونحن استرجعنا الصورة كسلاح ووثيقة"، أما الجيل الثالث فهو جيل ما بين الانتفاضتين وهو وليد الانتفاضات الشعبية في فلسطين، وقد أفرز عشرات السينمائيين والسينمائيات الشباب على أرض فلسطين. تقول مي انها مع سينما الإنسان، سينما الحقيقة الإنسانية، إن كانت تسجيلية أو روائية، وهي لا تحب التصنيف بين الروائي والتسجيلي"المهم أن أكون صادقة مع نفسي ومبدعة في عملي"، وترى ان الفيلم الروائي يبحث عن لغة خاصة به، حيث التنوع الكبير في الشكل والأسلوب، وهنالك محاولات تفتيش عن لغة جديدة بين الروائي والوثائقي تسميها مي الديكودراميا. مي المصري سينمائية من طراز خاص، تربطها مع أبطال أفلامها علاقة إنسانية مفعمة بالمحبة والحرص وتقديم يد العون،"كل أطفال أفلامي الذين صورتهم منذ الانتفاضة الأولى وحتى الآن علاقتي بهم مستمرة، وقد أخذت على عاتقي مهمة تعليم 30 طفلاً منهم كي يكملوا دراستهم الجامعية، وكلهم أمل بالتفوق، إذ لديهم طموحات لا تحد. أنا ألتقيهم دائماً وأحدثهم حول مستقبل كل واحد منهم". عندما قرأت"مندوبة الأحلام"، وتأملت الاشتباك الدرامي بين مي المصري والظروف القاهرةللفلسطينيين وقولها ان"فلسطين كلها كجغرافيا وفكرة تحت الحصار ومنع التجول"، عندما تأملت هذا الاشتباك الجميل... والتعب الجميل... والثمار السينمائية الجميلة، لا أعرف لماذا تكثفت أمامي بقوة مسألة"الخيال"، الخيال الذي لولاه لمات السجين والمحاصر من القهر، الخيال الذي تطير به أحلامنا، الخيال الذي يرافق الإيمان ونتسامى به على الحزن والكآبة، والخيال الذي يضيف فسحة جديدة للروح كلما شاهدنا، أو قرأنا، عملاً جميلاً.