للاستفادة من الارتفاع الحالي لأسعار النفط في تحقيق تنمية اقتصادية مستديمة متوازنة، يتوافر على حكوماتنا اعتماد سياسات وبرامج تهدف الى تحسين الوضع الحالي لموازين مدفوعاتها. وأن تعمل كذلك على توحيد وتكامل تأثيرات المدى القصير والبعيد. فإلى جانب ضرورة تصحيح موازين المدفوعات، يجب الاهتمام بأهداف التنمية وتخفيف حدة الفقر وتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين وأبعاد أخرى ذات علاقة بالتنمية الاقتصادية. فقد أثبتت التجارب أن تحقيق النمو على رغم كونه شرطاً أساسياً للتنمية، إلا أنه غير كاف وحده. فبرامج تطوير وتنمية المصادر البشرية كالتعليم والصحة والتغذية تعتبر مهمة جداً للمواطنين الذين يعتبرون الهدف الأسمى لعملية التنمية الاقتصادية. كما أن توفير المياه الصالحة للشرب والمجاري والإسكان إلى جانب خدمات رئيسة أخرى تعتبر أهدافاً مهمة يجب على أصحاب القرار الاهتمام بها إذا ما أريد تحقيق خطط اقتصادية واجتماعية مرغوبة متوازنة. ومن أكبر الاعتراضات التي ترد على البرامج الإصلاحية لصندوق النقد الدولي موقفها السلبي تجاه تنفيذ برامج تهدف إلى تخفيف حدة الفقر ومقابلة الاحتياجات الرئيسة للمواطنين. ويأتي الرد على ذلك وفي شكل صريح بأن خفض البرامج الإنسانية يأتي نتيجة رفض الحكومات تقليص النفقات العسكرية والإدارية وخفض الرواتب والمخصصات الخاصة والسرية وكذلك موازنة المشاريع العملاقة المبالغ فيها. وبذلك يستخدم سياسيو الحكومات صندوق النقد الدولي شماعة لتغطية عجزهم في اتخاذ القرارات الصائبة. إلى جانب اعتماد أسلوب"التخطيط للتنمية"الذي تمثل فيه السياسات الاستثمارية العامة حجر الأساس، هناك أسلوب جديد يروج له يركز على أهمية"السياسات السعرية"لتحقيق التصحيح الهيكلي المرغوب في المدى البعيد وأهداف التنمية. ويتلخص هذا الأسلوب بإعطاء أهمية كبرى"لأسعار السوق"مع بعض من السيطرة الرسمية على تلك الأسعار إذا تطلب الأمر ذلك. على سبيل المثال، عند انخفاض أسعار النفط العالمية، تبقي البلدان الصناعية أسعار المستهلك للمنتجات النفطية مرتفعة من أجل خفض الاستهلاك من المصادر التقليدية وتوفير الحوافز لتطوير مصادر طاقة بديلة غير تقليدية. ومن ذلك أيضاً تدخل بعض الحكومات في تحديد أسعار كل من المنتجات الزراعية والصناعية من أجل تحقيق أهداف القطاعات الاقتصادية في المدى البعيد إلى جانب أهداف أخرى تخدم الاقتصاد الكلي للبلد. وهناك خلاف كبير بين الاقتصاديين حول فاعلية الأسعار في قيادة قرارات كل من المستهلكين والمنتجين وما يمكن أن تحققه عوامل السوق من حلول سحرية. فالتخطيط للتنمية في اقتصاد معين يتطلب إيجاد سياسات قادرة على تحقيق أهداف بعيدة المدى، من ضمنها توفير مؤشرات سعريه جيدة تساعد في تحسين كفاءة استثمارات القطاع العام والقرارات الاقتصادية الأخرى. فالمؤشرات السعرية الجيدة تساعد على تقليص الفجوة بين قرارات الاقتصاد الجزئي القطاعي والقرارات المتعلقة بالاقتصاد ككل. لذا يمكن القول إن تحقيق أهداف الحكومة في المدى البعيد يتحدد بأبعاد سياساتها في الإنفاق العام والأسعار. وتظهر الحاجة الى وضع سياسات تصحيحية عند ظهور مجموعة من الأسباب الخارجية والداخلية التي تبرر ذلك والتي تختلف من بلد الى آخر ومن فترة الى أخرى. وبصرف النظر عن العوامل المسببة لذلك، يمكن القول باختصار إن الحاجة للأخذ بسياسات تصحيحية تأتي من جراء فشل البرامج الحالية والسياسات المعتمدة في تحقيق استقرار مستديم في ميزان المدفوعات. ويمكن إتمام عملية التصحيح هذه إما في شكل عقلاني وواضح من خلال تصحيح السياسات والبرامج بهدف الوصول إلى الوضع الجديد المرغوب، أو ترك الاقتصاد يصحح نفسه تلقائياً عند تكاليف مرتفعة جداً نظراً لبقاء السياسات الخاطئة من دون تغيير. ومن الشروط الرئيسة المهمة في عملية التصحيح الهيكلي للمدى البعيد، ما يسمى"دورة المشاريع"التي تتلخص في اعتماد قرارات وإجراءات تحليلية يتم بموجبها تحديد المشروع أو المشاريع التي يحتاج لها الاقتصاد وتوفير المستلزمات وتقويم مراحل تنفيذ المشروع نفسه. خلال هذه العملية يتطلب حصر المشاريع الكبيرة جداً وإعطاء الأولوية للمشاريع التي تحقق عوائد اقتصادية واجتماعية معقولة. إن تلك الإجراءات يجب أن تتم في إطار تحليل عملية التصحيح التي تتلخص في: الاتفاق والقبول السياسي لمجموعة السياسات الإصلاحية المرغوبة وأهداف التنمية وتحديد الزمن اللازم لتنفيذها، تحديد القيود والبدائل، متابعة السياسات التنفيذية وتحليل النتائج. ومن الشروط الرئيسية لعملية الإصلاح وجود حكومة قوية قادرة على التعامل والتنسيق الحازم مع مسؤولي تنفيذ السياسات الاقتصادية الوزراء ورؤساء الهيئات. فعلى سبيل المثال: في الكثير من الدول العربية تقتسم سياسة التصنيع وزارات عدة: التخطيط والمالية والصناعة والبنك المركزي وهيئة الضرائب ومؤسسات التمويل الصناعية وهكذا. وقد تحتاج بعض تلك الحكومات دعماً من مؤسسات دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبرنامج الأممالمتحدة للتنمية والدول المانحة لتحديد حجم الإصلاح ومعاييره والبدائل على المدى القريب والمتوسط والبعيد. وعندما تكون الإصلاحات المرغوبة معقدة كالإصلاح المالي ووضع أنظمة تسويق وحوافز للقطاعات يتوجب على الحكومات إشراك مؤسسات البحث الوطنية والجامعات والاستشاريين. وتعاني البلدان العربية عموماً نقاط ضعف في إمكانية رسم السياسات التفصيلية وبدائلها لتحقيق تنمية مستقرة متوازنة تتمثل في تعدد مصادر صنع القرارات وغياب التنسيق المحكم، ضعف الدعم السياسي وضعف الإمكانيات الفنية. في ضوء أعلاه يمكن القول: - إن عملية التصحيح تفرض نفسها على البلدان التي تعاني موازين مدفوعاتها من مشاكل تُظهر أعباءها على المدى البعيد. وتقع المسؤولية الأخلاقية الدولية على البلدان الغنية بخاصة العربية في دعم عملية التصحيح فيما إذا كان مرجع ذلك التدهور ناجماً عن"تدهور في الظروف الاقتصادية الخارجية". بعبارة أخرى ان مسؤولية التصحيح تقع على كل من الدول الدائنة والمدينة. وفي إمكان كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أن يلعبا دوراً إيجابياً في تحديد السياسات الواجب اتباعها للخروج من المأزق. إن العقبة الكأداء في هذا الجانب هي الموقف السلبي للبلدان الصناعية ورفضها وعنادها في قبول مسؤوليتها الدولية في دعم الإصلاحات المطلوبة، مما يؤدي إلى تحميل البلدان الفقيرة كامل الأعباء. - إن من الصائب جداً تنفيذ السياسات التصحيحية بأسرع وقت ممكن من أجل خفض التكاليف التي تنجم عن عدم التصحيح. ولتحقيق ذلك يجب القيام بسلسلة من التوقعات المستقبلية من أجل تصميم البرامج العلاجية والبدء بتنفيذها. - إن البرامج والسياسات المطلوبة لإحداث التصحيح الهيكلي على المدى البعيد لاقتصاد ما يجب أن تكون أكثر كفاءة وأكثر عمقاً مما تحتويه البرامج المساعدة لصندوق النقد الدولي نظراً لاحتواء الأولى على برامج قطاعية مدعومة ببرامج إنفاق عام مناسبة. أثبتت الأحداث ضعف مجموعة الأنظمة الاقتصادية العربية في مواجهة الكساد الاقتصادي العالمي متمثلاً في الصعوبات التي واجهتها موازين مدفوعاتها والتي دفعت البعض منها للاستغاثة بصندوق النقد الدولي. تلك الاستغاثة التي تعتبر في جوهرها تسليم جزء من استقلاليتها وسيطرتها الاقتصادية إلى مؤسسات تدور الشبهات حول استقلاليتها وموضوعية برامجها. * كاتب اقتصادي