هل هي، كما يحلو للبعض ان يقول، اجمل حكاية حب في القرن العشرين بين اديبين مفكرين؟ أم هي كما يقول البعض الآخر قصة علاقة قامت على العقل، فكانت اقرب الى ان تكون تواطؤاً بين مثقفين، اكثر منها"حكاية رومانسية جميلة"؟ ليس من السهل على احد ان يحدد أو يأتي بالاجابة الحاسمة. ولا حتى فيلم هذا المساء التلفزيوني الذي تعرضه القناة الثالثة الفرنسية التي انتجته بنفسها وحُقق في العام الفائت، ضمن اطار اهتمام تلفزيوني فرنسي مفاجئ بجان بول سارتر، اشرنا اليه في حينه. الحكاية هنا في هذا الفيلم هي حكاية جان - بول سارتر وسيمون دي بوفوار الكاتبين الفرنسيين الاكثر شهرة واثارة للسجال في فرنسا القرن العشرين. والفيلم روائي تدور أحداثه خلال ساعتين وربع الساعة، اخرجه ابلان دوران، وقام فيه بدور صاحب"الوجود والعدم"الممثل لوران دوتش، فيما قامت الحسناء آنا موغلاليس بدور سيمون دي بوفوار. سجالات"الفلور" اذاً، هذا المساء سيعيش جمهور تلك المحطة الفرنسية - التي تلتقط في انحاء عديدة من المناطق العربية - مع سارتر ودي بوفوار، ولكن خاصة من خلال تلك العلاقة الغريبة بينهما والتي دامت منذ لقائهما الاول في الحي اللاتيني في باريس، وحتى رحيل سارتر في العام 1980 ثم رحيل سيمون في العام 1985. والحال ان ما يحاول هذا الفيلم ان يقوله، هو ان العلاقة بين قطبي الفكر الوجودي"اليساري"انما كانت علاقة بنيت على عقد عاطفي وعقلاني معاً بينهما. ولذا دامت العلاقة على رغم ان كلاً منهما عاش، خلالها، علاقات أخرى مع أطراف آخرين. ومهما يكن فإن ما سيعيشه المتفرج في الفيلم هو السنوات العشرون الاول فقط من العلاقة، اذ ان وقت الفيلم لا يتسع بالتأكيد لكل تلك العقود التي دامتها. ثم ان الجزء العاصف من علاقة جان - بول بسيمون كانت خلال النصف الاول من عمر هذه العلاقة، اذ بعد ذلك هدأت العواصف وهدأ العاشقان وتضاءلت فرص توجيه الأنظار الى الخارج: صارا أشبه بعجوزين في اغنية حنين قد ينشدها جاك بريل. بل اكثر من هذا: تحول التواطؤ العاطفي والانساني بينهما الى تواطؤ سياسي. وخاضا معاً، ثم كل منهما بمفرده وعلى سجيته، نضالاً فكرياً سياسياً فيما كان العالم يتبدل وباريس نفسها تتبدل وكذلك الحي اللاتيني. وحده لم يتبدل في خضم ذلك كله مقهى الفلور الذي اشتهر بكونه لمقر"الدائم"لهما، ومكان التقائهما برفاقهما واندلاع السجالات الصاخبة. ومقهى الفلور، هو، على اية حال، الذي اعار اسمه الى عنوان الفيلم فاضحى"عشاق مقهى الفلور". غير ان الفيلم لا يطاول فقط العلاقة بين سارتر ودي بوفوار، خلال سنوات الشباب تلك، بل يطل - في شكل اساسي ايضاً - على ظروف ولادة العديد من الكتب التي وضعها كل منهما خلال تلك المرحلة. ويكشف ان الاثنين نادراً ما كانا يشتغلان معاً، فكرياً وادبياً. ففي اطار"العقد"المبرم، عرفياً بينهما، كان لكل منهما عالمه الفكري وافكاره الخاصة... من دون ان يعني هذا ان العالمين لم يلتقيا، دائماً تقريباً. ولعل من اكثر الأمثلة فائدة وإثارة للدهشة في هذا الاطار، ان الفيلم يكشف كيف ان كتاباً مثل"الجنس الآخر"الذي كان ويبقى اهم كتاب وضعته سيمون دي بوفوار، بل - حتى - اهم كتاب عن القضية النسوية في القرن العشرين، لم يكن - من ناحيته - وليد فكر عقلاني - سيكولوجي - فلسفي كما يخيل الى معظم الذين قرأوه، بل وليد مرحلة شديدة العاطفية كانت هي في خلفية انبعاثه، حتى وان كانت صياغته اتت في نهاية الامر علمية - تحريضية. درس لآخرين مهما يكن فان النقاد الذين شاهدوا هذا الفيلم التلفزيوني قبل عرضه، أجمعوا على انه من الناحية المهنية أتى ناجحاً، ولا سيما بالنسبة الى آنا موغلاليس التي أدت بقسط كبير من القدرة على التعبير، حالات سيمون دي بوفوار المتغيرة على مدى السنين مقابل الثبات الظاهر لمزاجية سارتر. غير أنهم، من ناحية اخرى، ابدوا بعض خيبة الامل، ازاء اختصارات للافكار والمواقف عزوها، من ناحية الى ضعف في السيناريو ومن ناحية ثانية الى تعسف الزمن التلفزيوني، الذي لا يتناسب مع حياة وافكار أناس من طراز سارتر لا تكفي لعرض افكاره ساعات وساعات، ولا من طراز دي بوفوار، التي عاشت حياة مليئة حتى التخمة. ومهما يكن، هي محاولة يبحث من خلالها التلفزيون عن آفاق جديدة وعن ذكاء متقد يعبر عنه. وفي يقيننا ان كل محاولة من هذا النوع لا بأس من استقبالها بترحاب. وعندنا، يأمل ان تكون نموذجاً يحتذى، بخاصة ان ثمة في عالمنا العربي مشاريع عديدة ترغب الغوص في حياة كبار المفكرين والفنانين ولا تزال قاصرة عن معرفة أي الطرق تسلك. التاسعة الا 5 دقائق مساء اليوم بتوقيت باريس ? القناة الفرنسية الثالثة.