كان «ساندرا» آخر فيلم حققه لوكينو فيسكونتي بالأسود والأبيض. من بعده لم يتوقف عن تلوين أفلامه مقترباً بها، في شكل عام، من فن الأوبرا: الفن الشامل. اما في «ساندرا» فإنه اقترب في شكل خاص من فن المسرح. وتحديداً من المسرح اليوناني القديم وأساطيره المؤسسة. من هنا لم يكن غريباً ان يصف نقاد هذا الفيلم بأنه يوناني أكثر منه إيطالي، بخاصة ان كلوديا كاردينالي، بدت فيه، بتسريحة شعرها وثيابها وملامح وجهها وكأنها طالعة مباشرة من الأساطير اليونانية. وفي شكل أكثر تحديداً من أسطورتي ألكترا وأدويب. والحقيقة ان كثراً من النقاد تحدثوا عن هذا المزج الذي مارسه فيسكونتي في هذا الفيلم، بين الأسطورتين، ولكن دائماً في شكل مبهم يحتمل العديد من التأويلات. لقد كتب فيسكونتي الفيلم بنفسه وإن بمساعدة تقنية من كاتبته المفضلة سوزو تشيكي داميكو، ومن أنريكو مديولي. ومن هنا تبدو خصوصية هذا الفيلم، بل حميميته بالنسبة الى صاحب «الفهد» و «روكو وإخوته» و «سنسو». بل لعل في إمكاننا، من جانب ما ان نتحدث بصدد هذا الفيلم عن جانب ندر له أن خطر في البال: جانب يتعلق بموقف ما لفيسكونتي من المقابلة بين أوروبا وأميركا، على نمط يذكر الى حد ما، بروايات هنري جيمس. فالفيلم، في هذا الجانب، يقدم شخصيتين لهما منبع واحد: إحداهما تعيش حالياً في أميركا، والثانية في أوروبا. الأولى هي الحسناء ساندرا التي تركت البيت العائلي في إيطاليا منذ زمن واقترنت بزوجها الأميركي اندرو داوسون، وها هي الآن تزور معه ذلك البيت مستعيدة ذكريات طفولتها ومراهقتها، والشخصية الثانية هي شخصية جياني، شقيق ساندرا، الذي ترك البيت بدوره، ولكن ليبقى في وطنه، ويصبح كاتباً. والأخوان يلتقيان اليوم، كي يشاركا في احتفال تقيمه بلدية المدينة الصغيرة التي تحدرا منها لمناسبة إطلاق اسم والدهما الراحل على حديقة باتت الآن عامة بعدما قدمتها الأسرة للبلدية. وهذه الأسرة مكونة اليوم من الشقيقين الغائبين/ العائدين، ومن الأم وزوجها الجديد. في هذا الفيلم، وكما يحدث في معظم الأفلام الدرامية التي تتحدث عن لقاءات عائلية بعد غياب، من المؤكد ان اللقاء يستجر أموراً كثيرة، ويعيد الماضي وهمومه، ومآسيه وذكرياته الى واجهة الأحداث. لكن هذا لن يمضي بسلام، ذلك ان ما سيطفو على السطح من آلام الماضي وأحداثه، سيؤدي في نهاية الأمر الى مأساة لم تكن في الحسبان. أو لنقل إن المأساة التي تحدث لمناسبة ذلك اللقاء، إنما تأخر حدوثها زمناً طويلاً، فهي لم تنتج في الحقيقة عن اللقاء نفسه، وإنما عما أثاره اللقاء من ذكريات. ولنوضح الأمر... تقوم الحكاية هنا على هذا اللقاء من خلال البدء بتصوير عودة ساندرا، مع زوجها. في البداية نجدها مقبلة على ملعب طفولتها، سعيدة، متشوقة، على الأقل لرؤية أخيها، تواقة الى ان تعيش تحت ظل زوجها وفي حماه، شيئاً من سعادة الماضي. لكن الأمر، بالنسبة الى أخيها مختلف. فهو لا يعود هنا ليعود الى الماضي. إنه يعيش في الماضي، من خلال آلامه الدفينة، كبديل لذكرياته الحية، وكذلك من خلال الرواية التي يكتبها عن طفولته وطفولة أخته والعلاقة الملتبسة التي كانت بينهما أول مراهقتهما. إن هذه العلاقة تنكأ جراحه، في الوقت الذي تبدو أخته ساندرا وكأنها نسيتها تماماً، غير اننا سرعان ما سندرك، مع مجرى أحداث الفيلم، ان ساندرا لم تنس شيئاً، بل هي عودت نفسها على النسيان. وهو تعوُّد سينقذها في نهاية الأمر. وبالتالي، قد يكون في إمكاننا ان نقول ان هذا التناسي أو التعوّد، إنما هو جزء الآن من اميركيتها الجديدة (ومن هنا ذكرنا هنري جيمس وإتقانه، في عدد من رواياته وقصصه لتصوير العلاقة الفردية والجمعية الملتبسة بين اميركا وأوروبا). بالنسبة إليها، حتى ولو عدنا الى الزمن الماضي، لنزوره بماض نعيش أحزانه ومآسيه، فإن العودة لن تكون إلا عابرة... فاصل زمني سريع، نستأنف من بعده حياة الحاضر. وعلى العكس من هذا، ذهنية جياني، الأخ، الإيطالية/ الأوروبية: الزمن بالنسبة إليه توقف في الماضي، عند تلك النقطة التي حدث فيها ما تفضل ساندرا نسيانه اليوم، والذي - في أعماقها - تتهم أباها بأنه هو من دفعها إليه -، في الوقت نفسه الذي لا تتوقف فيه عن التساؤل: لماذا لم تحبني أمي ابداً؟ في هذا الحاضر إذاً، تعيش ساندرا المأساة والأسئلة ذاتها التي يعيشها جياني، والتي تربط دراما الفيلم كله بأسطورتي ألكترا (بالنسبة الى علاقة ساندرا الماضية بأبيها، وإسقاط العلاقة على أخيها) وأوديب (من ناحية جياني). ولكن في الوقت الذي تعرف ساندرا ان كل شيء سيعود بالنسبة إليها الى مجراه الراهن خارج إطار اللقاء العائلي، ومن خلال علاقتها الطيبة والشغوفة بزوجها الذي يمثل بالنسبة إليها خشبة الخلاص، يعرف جياني ان هذا يعني بالنسبة إليه نهاية كل شيء: هنا فقط، وعلى هذا النحو، وعلى ضوء وضع ساندرا الجديد، ينتهي الماضي. هذا الماضي الذي من الواضح هنا ان جياني، الذي ينكب على كتابة روايته عنه، لا يكتب الرواية ليدفنه فيها، بل ليعيد إحياءه من جديد. وإذ يدرك جياني الآن أن مشروع إعادة الإحياء هذا، فاشل وغير ممكن - لأنه أوروبي؟ -، وإذ يدرك في الوقت نفسه أن - بعد هذه الزيارة - لا شيء سيعود كما كان، أو كما ظل طوال حياته يحلم به أن يكون. لا يعود أمامه سوى وضع حد لحياته، وكذلك محو روايته من الوجود. ومن هنا في مشهد درامي أخير يمزق جياني روايته وينتحر، فيما تحس ساندرا على رغم آلامها، بأن جزءاً من عبء الماضي انزاح عنها، هي التي أصلاً يكمن همها في مكان آخر. معرفة ان زوج امها انطونيو جيرالديني، كان هو الذي وشى لدى الفاشيين بأن أباها يهودي ومعارض فقتلوه. من هنا، تبدو ساندرا، في نهاية الأمر، وكأنها أخرجت الماضي نهائياً من أعماقها، وها هي بالتالي تعود الى زوجها ومعه... عند نهاية الفيلم. يعرف هذا الفيلم، عادة باسم «ساندرا»، لكن له اسماء عدة أخرى، أبرزها «نجوم الدب الأكبر الشاحبة» وهي عبارة منتزعة من واحدة من اجمل قصائد الشاعر ليو باردي. ومن اسماء الفيلم ايضاً، الاسم الذي عرض به في انكلترا «عن هذه الملذات الألف» (وهو اسم من الواضح ان لا علاقة رئيسة له بالفيلم). و «ساندرا» من بين أفلام لوكينو فيسكونتي (1906- 1976)، قد لا يكون أجملها وأفضلها، لكنه بالتأكيد أحد أعمق أفلامه، وأكثرها - ربما - ذاتية، حتى وإن كان معروفاً ان فيسكونتي كتبه وحققه خصيصاً من اجل كلوديا كاردينالي التي كان فُتن بها وبأدائها وقوة تعبيرها حين أدارها في فيلمه الملحمي «الفهد» قبل «ساندرا» بأعوام قليلة. وفيسكونتي الذي يعتبر واحداً من أساطين الفن السابع في ايطاليا وأوروبا، بدأ مسيرته المهنية متوسماً لما سيسمى ب «الواقعية الجديدة»، لكنه سرعان ما تخلى عنها ليحقق بعض الأفلام الملحمية الكبرى (إضافة الى ما ذكرنا: «موت في البندقية»، «سنسو» ، «البريء»، «الملعونون»، و «لودفيغ»)، هو الذي عُرف ايضاً كمخرج مسرحي وأوبرالي... وكانت بداياته في باريس مساعداً لجان رينوار الذي قدمته إليه كوكو شانيل. [email protected]